الغيثي: أسمى العلوم ما تنتجه بشكل متكامل جوانبنا العاطفية والفكرية

فطين عبيد

< على رغم أن كتاب «أشكال لا نهائية غاية في الجمال» لشون كارول، الصادر عن مشروع كلمة بترجمة حمد الغيثي وعبد الله المعمري، يتناول موضوعاً علمياً إلا أنه كتب في لغة مفعمة بالجمال، لعله من هنا يعتبر المؤلف أن النظرة العلمية للتاريخ الحيوي مفعمة بالجمال، لا تقل عمّا يوجد في لوحة أو مقطوعة موسيقية. الكتاب الذي يعيد طرح أسئلة مهمة حول تحول أشكال البشر والحيوانات تحولات لا نهائية، فاز بجائزة السلطان قابوس للعلوم والثقافة والآداب. هنا حوار مع أحد مترجميه حمد الغيثي، الذي فاز بالجائزة منفرداً. وإلى نص الحوار:

> «أشكال لا نهائية غاية في الجمال» لشون كارول(صدر عن مشروع كلمة)، أول كتاب لك مترجم يفوز بجائزة مرموقة مثل جائزة السلطان قابوس للعلوم والثقافة والآداب، كيف كان وقع الفوز عليك، وما الذي ستقدمه لك القيمة المالية للجائزة (حوالى 130 ألف دولار)؟
– وقع الفوز كان مفاجئاً تماماً ومُبهجاً أيضاً، إذ لم يكن ضمن توقعاتي أن يفوز كتابٌ علميٌ في تطوّر مملكة الحيوان بجائزة السلطان قابوس، وذلك لسبب عَمَلي بحت، وهو أنّ شيوع الترجمات الأدبية والفكرية قد طبع ذائقة لجان التحكيم في الجوائز العربية الكُبرى. لكن ثبت خطأ اعتقادي هذا، وقد أبهجني ذلك.
في الحقيقة لم أحسم أمري بعد تجاه القيمة المادية للجائزة، لكنّ قيمتها المعنوية كبيرة جداً، وقدّمت لي حافزاً مهماً لمواصلة الترجمة في ذات الحقل.
> اللافت في الكتاب عدا موضوعه الحيوي هو أيضاً لغته، إذ بدت لغة تنأى قليلاً عن لغة العلوم التي تتبدى في كثير من الأحيان جافة، فلغة الكتاب أقرب إلى اللغة الأدبية، لغة الكتابة في شكل عام، من دون أن تفقد رصانتها وحمولاتها العلمية، كيف أمكنك وشريكك في الترجمة عبدالله المعمري التوصل إلى هذه اللغة؟
– كان ذلك تحدياً صعباً. كتاب الأشكال، في لغته الأصل، يعتني بقضية الجمال. ويتضح ذلك في عنوان الكتاب «أشكال لا نهائية غاية في الجمال». لقد اعتنى المؤلّف شون كارول في صبغ أجزاء معيّنة من كل فصل بلغة جمالية شعرية، فاجتهد في البحث عن اقتباسات فنّية وأدبية تعكس محتوى الفصول. والأهم من ذلك، هو أن الكتاب يحمل هدفاً، فكرة كبيرة هي أن النظرة العلمية للتاريخ الحيوي مفعمة بالجمال، لا تقل عمّا يوجد في لوحة أو مقطوعة موسيقية. من هنا نرى الاقتباس التالي: «إن الجمال ليس قضية سطحية في العلم، فأسمى العلوم هو ما تنتجه بشكل متكامل جوانبنا العاطفية والفكرية، أي فصّا دماغنا الأيمن (العاطفي أو المبدع) والأيسر (المنطقي). إن أعظم نشوات الاكتشاف العلمي هي ما تجمع الجماليات الحسية والرؤية المفهومية». كان إبراز ذلك في الترجمة تحدياً كبيراً، لكنّ ما سهّل المهمة، هو أنّه إضافة للتكوين الأكاديمي لنا بوصفنا مترجمين (عبدالله مهندس، وأنا أحيائي)، فإنّ لكلينا خبرة في اللغة الأدبية، فعبدالله شاعر ذو لغة عذبة جداً، وقد كنتُ أكتب القصّة. لقد حاولنا أن تكون لغة الترجمة مفهومة لبساطتها، ومتينة لجزالتها. نرجو أن نكون وُفِّقنا في هذا.
طابع جمالي أخّاذ
> الكتاب حول كيفية تحول أشكال الحيوانات والحشرات والمخلوقات تحولاً لا نهائياً، أين يلتقي كتابكما مع نظرية داروين وأين يفترق؟
– نشر دارون كتاب «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩، وجاء فيه ما عُرف لاحقاً بنظرية دارون، وهي أنّ الأنواع تتطور من أسلافها بفعل قوى الانتخاب الطبيعي. كثير من التفاصيل التي كتبها دارون قد أصبحت غير ذي صلة من الناحية العلمية، لكنّ نظريته غدت الأساس الصلب الذي تقوم عليه العلوم الطبيعية. كتاب «أشكال لا نهائية غاية في الجمال» يسردُ التطورات المنهجية والاكتشافات التي قادت إلى الدفعة الثالثة والأخيرة من الأدلة العلمية على تطور الحيوانات من أسلاف. إنّ هذه الأدلة لا تدع مجالاً للشك في نظرية دارون، وهي تضفي طابعاً جمالياً أخّاذاً، إذ تأخذنا لفهم كيفية تشكّل النمط في مملكة الحيوان، مثل ألوان جناح الفراش، ونشوء دماغ البشر، وتشكّل اللون الأسود، ونشوء الأجنحة وغيرها. إضافة لذلك، نستطيع اليوم الإجابة عن أسئلة مهمة مثل كيف يتطور الشكل؟ وهل يُكرّر التطور ذاته؟
> بطريقة مبسطة جداً، وفي أقل عدد ممكن من الكلمات هل يمكن أن تشرح للقارئ مضمون الكتاب وعلم الإيفوديفو؟
– الكتاب يقدّم فكرتين رئيسيّتيْن، هما: أولاً، جميع الحيوانات، سواء الحيّة أو المنقرضة، تتحدّر من حيوان بدائي عاش قبيل العصر الكامبري، أي منذ حوالي ٥٣٠ مليون سنة. وبذلك فإنّ الجينات التي تُؤطّر أعضاء الحيوانات وأشكالها قد وُجدت في تلك الحقبة السحيقة. إذن الجينات التي تصنع أعضاء الحشرات هي ذات الجينات التي تصنع أعضاء البشر. ثانياً، إنّ الاختلاف المُشاهد في شكل الحيوانات هو نتيجة تغيّرات «في التحكّم» بهذه الجينات أثناء نمو أجنة الحيوانات.
> دوماً ما يثار تعارض العلم مع الدين أو الإيمان، كيف ترى هذه المسألة، وأنتما أشرتما إليها في مقدمة الكتاب؟
– هذا سؤال مهم، وينبغي طرحه وناقشه على نطاق واسع. لا، لا يوجد تعارض بتاتاً، «فالعلم هو أرقى أشكال المعرفة البشرية، وبالتالي فليس ثمة شك في اتفاقه مع الوحي. ليس بين الدين والعلم أي تعارض، وإن وُجد التعارض فهو إما صنيعة الأهواء والمصالح، أو صنيعة سوء الفهمين؛ فهم الدين وفهم العلم»، كما جاء في مقدمتنا.
إنّ الدين والعلم يغطيّان مجالات مختلفة، ويشيّدان منطلقاتهما وأحكامهما بشكل مختلف، ولهما رؤى متمايزة لليقينيات. لذلك لا يوجد تعارض بين العلم والدين. على العكس، يحضُ ديننا الحنيف على إمعان النظر والتفكّر والتدبر، وفي ذلك دعوة مباشرة للعلم وإعمال العقل، فقد قال تعالى: «قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، إنما يتذكر أولوا الألباب» الآية ٩، الزمر. وقد تُرجمت هذه الدعوة في صدر الدولة الإسلامية إلى نفرة إلى العلم، حيث احتضنت الحواضر الإسلامية دور العلم باختلاف أنواعها، ودعمت العُلماء بغضّ النظر عن أصلهم ولونهم. نتج من ذلك تطور ماديّ للحضارة الإسلامية، رصده الشرق والغرب.
> بصفتك تتخصص في علم الأحياء، كيف ترى علاقة العرب بالعلم، كثيرون يرون أننا بعيدون عن التطورات العلمية، وأننا نكتفي بدور المستهلك لها، وليس المنتج؟
– للعرب تاريخ مشرق، لكن حاضرهم مظلم. لم يشارك العرب في أيّ من الثورات العلمية التي حدثت في الـ500 سنة الفائتة، ولم يتفاعلوا معهن تفاعلاً بنّاءً. يمكنك أن تختبر ذلك بنفسك عبر رصد الثورات العلمية، ومراقبة تفاعل المجتمعات العربية معها (إن وُجد هذا التفاعل)، عبر الكتابات أو الأفعال مثل تأسيس دور العلم الحديثة. منذ الثورة التي أحدثها جاليليو وكوبرنيكوس وكيبلر، أثبتَ العِلْمُ أنه مُغيّر الرؤى الكُليّة وصانعها. صحيح أنَّ الحركة الأوّلى للعلم تتمّ في إطار معزول نسبياً، إلاّ أن نتاجها يؤثر أيّما تأثير على المجتمعات الحاضنة وعلى تطورها وقوّتها، وعلى لغة هذه المجتمعات. إنّ الضريبة التي تدفعها المجتمعات العربية لقاء نبذ العلم لا تتمثّل فقط في غياب الإنتاج المادي، بل أيضاً في الجمود الفكري، فها نحن عالقون في الماضي، مأزومون عند التقائنا بالحداثة، ونشعرُ بالاغتراب.
> كيف يمكن جعل العلوم قريبة من الأجيال الجديدة، كيف يمكن دفعهم إلى الانخراط فيها متابعة وإسهاماً؟
– يمكن تقريب العلوم من الأجيال عبر طريقتين. الأولى، مؤسّسياً، من الأعلى إلى الأسفل. عن طريق تحديث التعليم وتبسيطه، وإشاعته خارج التعليم النظامي ومزجه باللعب والمرح، وعبر إنشاء مؤسسات موازية ومُكمّلة لنشر الثقافة العلمية والنهج العلمي في التعامل مع الأشياء والطبيعة. هذه الطريقة أضبط وأسرع في النتائج، ويُمكن توجيهها بيسر.
الثانية، هي الانتشار السلبي أو اللافاعل (passive diffusion) حيث يتأثرّ النشّأ، عبر أدوات التواصل الحديثة، بما يترجمه المترجمون وبما توفره منصّات التعليم العالمية من خدمة بالّلغة العربية. في هذا السياق نرى أنّ منصة Coursera تقدم مساقات متزايدة باللغة العربية. وهناك الكثير غيرها.

الثقافة العمانية
تعبر عن نفسها باستمرار
> صدر لك كتاب عن رياض الريس، عبارة عن حوارات في الثقافة العمانية، ما التحديات التي تواجه الثقافة في عمان؟
– إنّ نظرنا للثقافة كتعبير عن النشاط البشري في بقعة ما، فيمكن القول أنّ لعُمان إنتاج ثقافي مميّز وقديم جداً. إنّ هذا النشاط الثقافي مستمرٌ، ويعبّر عن نفسه بالكتابة الإبداعية والمسرح والترجمة والفنون وغيرها من المجالات. وتوجد مؤسسات ثقافية، سواء أكانت أهلية أم عامّة، تدعم هذا النشاط.
لكن، في رأيي، هناك جملة من التحديّات. الأوّل هو العُمق والتحميص والأصالة. إنّ الإنتاج الثقافي الحديث هو ظاهرة جديدة في عُمان بدأت في حوالى سبعينات القرن الماضي. لذا أعتقد أنّ العثور على أنماط وأصوات ثقافية متمايزة كان يمثّل تحدياً، لكنّ الوضع تحسّن مع نضوج تجارب متعددة. وعلى رغم ذلك هذا التحسّن، إلاّ أن وجود حركة نشطة للنقد الأدبي والثقافي سوف يحسّن من جودة المنتج الثقافي في عُمان.
الثاني هو الرقابة المجتمعية والشكوى من قلة الدعم الحكومي. لقد برزت ردّة فعل تجاه بعض الأعمال الأدبية مثل المجموعة القصصية «ملح» لبدرية الإسماعيلية. أثارت تلك الحادثة تساؤلات عن حريّة الكاتب، وتقديم تأويل دوغماوي واحد للأعمال الأدبية. إضافة لذلك، هناك شكوى عريضة من قلة الدعم الحكومي للعمل الثقافي، وذلك على رغم تعدّد المؤسسات الثقافية وتعدّد أنشطتها. ولعلّ الإشكال هو إجراء بحت بحيث يكمن في ضخامة طموح المشتغلين بالثقافة أو عدم وجود تصوّر موّحد للأهداف.
الثالث، وهو ما يهمنّي أكثر من غيره، يتعلّق بالغاية التي يتحرك إليها هذا النشاط الثقافي. أيُعبّر عن هواجس الجماعة والفئة أم الفرد؟ أهو تعبير عن التاريخ والتراث أم تطلّع إلى المستقبل؟ أيوّلد جدلاً ومخاضاً يمكّن المجتمع من تجاوز نفسه كي يُعيد تشكيل رؤاه أم هو غير ذلك؟ وهذا التحدّي يذكّرني بسؤال الفيلسوف توماس ناجل: ماذا يعني هذا كله؟ أي ما هي حقيقة هذا النشاط، وإلمَ يرمي؟
> ما مشاريعك الجديدة باعتبارك مترجماً ودارس علوم؟
– ترجمة كتاب الأشكال جاءت من فكرة أؤمن بها، وهي أنّ ثقافتنا العربية بحاجة ماسة لرؤى جديدة، رؤى جديدة تمنحنا منهجاً مختلفاً للتفكير في قضايانا، وبالتالي إيجاد حلول جديدة. لذلك لا بد أن يستمر هذا النشاط الترجمي. أعمل حالياً على ترجمة كتاب علمي حول الأنواع البشرية المنقرضة. وأتمنى أن أوفّق في هذا العمل. أمّا كدارس للعلوم، فأعمل على مواصلة دراساتي العُليا في مجال علوم الأحياء والوراثة، وأنظر دائماً للأساس التطوري الذي تتحرك في الجينات والأنماط الأحيائية.
> كيف ترى المشهد الثقافي في منطقة الخليج، خصوصاً في هذه اللحظة الظلامية التي تهيمن على العالم العربي؟
– هذه اللحظة في تاريخ العرب هي لحظة فارقة، إنّها لحظة انهيارات كبرى غير مسبوقة، فلا ريب أن نرى جهود الدول والمجتمعات العربية منصبّة على منع انهيارات أخرى. لكنّي أتمسك بالأمل في أنّ ما يحدث هو منطلق لولادة آتية، «فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً» النساء: 19. أمّا بالنسبة للمشهد الثقافي في الخليج فإنّه نشط. أقول هذا من متابعتي لعدد من الأنشطة الثقافية المحلية والإقليمية، مثل معارض الكتب والجوائز الثقافية، مثل جائزة السلطان قابوس للثقافة والعلوم والآداب، والدور الثقافية الكبرى، مثل مركز الملك عبد العزيز الثقافي العالمي، إضافة لدور الموسيقى والأوبرا، مثل دار الأوبرا السلطانية في مسقط وأوبرا دبي ودار الأوبرا الوطنية في الكويت. إلاّ أنني أعتقد أنّ هذا المشهد الثقافي النشط بحاجة ماسّة إلى أن يصوغ رؤية كلية جديدة نتجاوز بها رؤانا القديمة التي لم تتغير منذ عصور طويلة. أعتقد أنّ هذا المعيار هو الوحيد الذي يمكن أن نحكم به على جديّة وعمق النشاط الثقافي في الخليج.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى