الفرنسيّ جاك رانسيير وذلك الشيء العصي على الحكم

الجسرة الثقافية الالكترونية-العرب-

 

*هيثم حسين

يستهلّ الفرنسيّ جاك رانسيير كتابه “كراهية الديمقراطية” بإرجاع أعراض ما يبدو أنّه فوضى في مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلى ما يقول إنّها ترتبط بسبب وحيد يدعى الديمقراطية؛ ويفسّرها قائلاً: “أي سيطرة الرغبات اللامحدودة لأفراد المجتمع الجماهيري الحديث”.

يوجب رانسيير رؤية ما يشكّل تفرّد الشجب، ويذكر أنّ كراهية الديمقراطية ليست جديدة، وأنها قديمة قدم الديمقراطية لسبب بسيط يكمن في أنّ الكلمة ذاتها تعبير عن كراهية. وأنّها كانت أوّلاً شتيمة اخترعها في بلاد الإغريق القديمة مَن رأوا في الحكم الشائن للدهماء خرابَ كلّ نظام مشروع. ويستطرد بأنّها ظلّت مرادفة للبغض بالنسبة إلى كلّ مَن يعتقدون أنّ السلطة من حقّ مَن تكون مقدورة لهم بحكم الميلاد أو تستدعيهم بحكم كفاءاتهم.

 

 

الراعي والقطيع

 

يشير رانسيير إلى أنّ الديمقراطية ما تزال كذلك راهناً بالنسبة إلى من يجعلون من قانون الوحي الإلهيّ الأساس الشرعيّ الوحيد لتنظيم المجتمعات البشرية. ويؤكّد أنّ عنف هذه الكراهية راهن بالتأكيد. لكنّه يترك الأمر وتأويلاته جانباً ليفكّك موضوعه في أربعة محاور: “من الديمقراطية المنتصرة إلى الديمقراطية المجرمة”. “السياسة أو الراعي المفقود”. “الديمقراطية، الجمهورية، التمثيل”. “أسباب الكراهية”.

 

يذكر رانسيير أنّ الكراهية الجديدة للديمقراطية لا تتعلق بحالات نقد الديمقراطية ونماذجها، وأنّ الناطقين باسمها يعيشون في بلدان تعلن أنّها ديمقراطيات بالمعنى الدقيق، وليست دولا ديمقراطية فحسب. ويجد أنّ نقّادها يشكون من الشعب ومن عاداته، لا من مؤسسات سلطته. وأن الديمقراطية ليست بالنسبة إليهم شكلاً فاسداً للحكم، بل إنها أزمة حضارة تؤثر في المجتمع وفي الدولة من خلاله.

 

يلفت الكاتب النظر إلى جانب من المراوغات التي تبدو غريبة بداية، ولا سيما حين يجد أنّ النقاد الذين يشجبون أميركا الديمقراطية التي أتت منها كلّ الشرور المقترفة باسم الديمقراطية هم أوّل من يصفّق حين تشرع أميركا في نشر ديمقراطيتها عبر العالم بقوّة السلاح. كما يلفت النظر إلى أنّ الخطاب المزدوج حول الديمقراطية ليس جديداً، وأنّ هناك تكراراً لمقولة إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم باستثناء كلّ ما عداها.

 

 

تلك الفضيحة

 

يسعى رانسيير في كتابه إلى تحليل تشكّل وإبراز رهانات أطروحة أن ليس هناك سوى ديمقراطية جيّدة وحيدة، هي تلك التي تكبح كارثة الحضارة الديمقراطية. هذه الأطروحة التي توضح حالة عالمنا، كما يقول، وكيف يتم فهم السياسة فيه. ويعتقد أنّ ذلك يساعدنا على أن نفهم إيجابيّاً تلك الفضيحة التي تنطوي عليها كلمة الديمقراطية، وعلى معاودة العثور على ما هو جوهريّ في فكرتها.

 

بالرجوع إلى التدخّل الأميركي في العراق، والخلاف والاختلاف إزاءه، ينوه رانسيير إلى أنّ القول بانتصار الديمقراطية كان يعني معرفة كلّ ما يعنيه الانتصار، من جهة أن منح الديمقراطية لشعب آخر لا يعني منحه منافع الدولة الدستورية، والانتخابات الحرّة، والصحافة الحرّة، بل يعني أيضاً منحه الفوضى. حتّى لو وصفت تلك الفوضى بـ” الخلّاقة”. وتوصيف منح الحرّية يتضمن أيضاً حريّة فعل الشرّ.

 

يتوقّف عند مفارقة منح الديمقراطية التي تأتي بالفرض والإكراه، وكيف أنّها تكون جزءاً من منطق يمكن إعادة تركيبه انطلاقاً من أشلائه الممزّقة. ويذهب إلى أنّ الديمقراطية ليست الأنشودة الرعوية لحكم الشعب لنفسه، لأنّها فوضى العواطف التوّاقة للإشباع، وأنه يمكن، ويجب منحها من الخارج بقوّة سلاح قوّة عظمى، مع فهم أنّ القوّة العظمى ليست مجرّد دولة تملك قوّة عسكريّة مفرطة، بل تملك قوّة السيطرة على الفوضى الديمقراطيّة.

ذرائع وموانع

 

يعتقد رانسيير أنّ الحجج التي ترفعها الحملات العسكرية الهادفة إلى التوسّع العالميّ للديمقراطية تكشف عن المفارقة التي ينطوي عليها الاستخدام السائد لهذه الكلمة. ويذكر أنه يبدو بأنّ الديمقراطية تواجه خصوماً وموانع، من ناحية تواجه عدوّاً محدّداً بوضوح هو حكم التعسّف المطلق، الحكم الاستبداديّ الديكتاتوريّ الشموليّ. ومن ناحية أخرى تتصدّى لمهمّة الحياة الديمقراطية، إذ أنّ الحكم الديمقراطي الجيّد هو ذاك القادر على السيطرة على شرّ اسمه ببساطة الحياة الديمقراطية. بمعنى ضرورة القوننة.

 

بالحديث عن الديمقراطية الحديثة يعتبر الكاتب أنّها تعني تحطيم الحدّ السياسيّ بوساطة قانون اللامحدودية الخاص بالمجتمع الحديث. هذه الإرادة لتجاوز كلّ حدّ خدمها وجعلها شعاراً في آن، الاختراع الحديث بامتياز، ألا وهو التقنية. ويعتقد أنّ هذه تبلغ ذروتها بالرغبة في التخلص بوساطة تقنية التلاعب الجيني والتلقيح الصناعيّ، من نفس قوانين التقسيم الجنسيّ، والإنجاب المرتبط بجنس والنسب. ويرى أنّ الديمقراطية الأوروبية هي نمط المجتمع الذي يجلب هذه الإرادة.

 

يوجب الكاتب الوصول عبر الممارسات التراكمية إلى سلطة سياسية، ويعني بها تلك التي تعني في التحليل قوّة مَن ليس لديهم سبب طبيعي ليحكموا مَن ليس لديهم سبب طبيعي ليكونوا محكومين. وأنّ سلطة الأفضل لا يمكنها بشكل حاسم أن تكتسب المشروعية إلّا بوساطة سلطة الأنداد المتساوين.

 

 

الواقع والمثال

 

يعالج الكاتب فكرة متناقضة في جوهرها برغم ممارستها واقعياً، وهي أن السياسة هي أساس سلطة الحكم في غياب الأساس. وأنّ حكم الدول لا يكون شرعيّاً إلّا بكونه سياسيّاً. ولا يكون سياسيّاً إلّا بالارتكاز على غياب أساسه. ويعتقد أنّ هذا ما تعنيه الديمقراطية المفهومة على أنّها “قانون الحظّ”. ويرى أنّ الشكاوى المألوفة عن الديمقراطية العصيّة على الحكم تحيلنا في التحليل الأخير إلى أنّ الديمقراطية ليست مجتمعاً يُحكَم، ولا حكماً للمجتمع، وإنّها بالمعنى الدقيق ذلك الشيء العصي على الحكم الذي يجب على كلّ حكم أن يكتشف، في نهاية المطاف، أنّه قائم على أساسه.

 

يذكر رانسيير أنّه يجري دائماً تبسيط المسألة الديمقراطية والحجج المساقة لتبريرها، وأنّ التمثيل لعبة، أو خدعة، للتحايل على الديمقراطية، واقتصار الحكم على أقلّية مختارة بذريعة تمثليها للأكثرية، ووصولها إلى سدّة الحكم بطريقة ديمقراطية. ويكمل ذلك بإرجاعها إلى التعارض بين الديمقراطية المباشرة والتمثيلية. وأنه يمكن ببساطة تفعيل الاختلاف بين الأزمنة والتعارض بين الواقع والمثال. إذ يقال إنّ الديمقراطية المباشرة كانت جيدة بالنسبة إلى المدن الإغريقية القديمة أو الكانتونات السويسرية في العصر الوسيط حيث كان بإمكان السكان التجمّع في مكان واحد. وأنّ المجتمعات الحديثة لا تلائمها إلّا الديمقراطية التمثيلية.

 

سجال متجدد

 

بالعودة إلى واقع الدولة المعاصرة في أوروبا، يقول رانسيير إننا لا نحيا في ديمقراطيات، كما أننا لا نحيا في معسكرات اعتقال، كما يؤكّد بعض المؤلّفين الذين يرون أنّنا جميعاً خاضعون لقانون استثنائي لحكم بيو-سياسي. ويقول إننا نحيا في دول قانون أوليغارشية. أي في دول يحدّ فيها من سلطة الأوليغارشية الاعتراف المزدوج بالسيادة الشعبية وبالحريات الفردية. ويذكر أنّه يعرف مزايا هذا النوع من الدول مثلما يعرف حدودها.

 

يصف هذه الدول بأنّ الانتخابات فيها حرّة، وتضمن من الناحية الجوهرية إعادة الإنتاج تحت تصنيفات قابلة للتبادل، لنفس الأشخاص الحاكمين، لكن الصناديق فيها ليست مزوّرة بشكل عام، ويمكن للمرء أن يؤكّد ذلك دون أن يخاطر بحياته. والإدارة ليست فاسدة، باستثناء أعمال العقود العامة، حيث تختلط بمصالح الأحزاب الحاكمة. والحريات الفردية محترمة مقابل استثناءات بارزة في كلّ ما يمسّ حراسة الحدود وأمن البلاد. والصحافة حرّة، وهناك حرية تشكيل الجمعيات والتجمع والتظاهر، وتنظيم حياة ديمقراطية، أي تنظيم حياة سياسية مستقلة عن مجال الدولة.

 

يعتقد رانسيير أنه حين ننسى السياسة تماماً، تصبح كلمة الديمقراطية في آن واحد، صيغة مخفّفة تشير إلى نظام للسيطرة لم يعد المرء يودّ أن يدعوه باسمه، واسماً للذات الشيطانية التي تأتي لتحتلّ مكان هذا الاسم المحذوف: ذات مركبة يكون فيها الفرد الذي يعاني نظام السيطرة ذاك، والفرد الذي يشجبه مندمجين. ومن سماتهما المتراكبة يرسم السجال الصورة الكومبيوترية للإنسان الديمقراطي المقولب في إمبراطورية السوق التي تساهم في خراب الحضارة والإنسانيّة.

الحمير النافرة

 

يتناول الكاتب أشكالاً من الأقنعة التي تختبئ الأحقاد تحتها، وتثير كراهية للديمقراطية عبرها. الكراهية التي لا تتمكّن من تشويه صور الديمقراطية وتجلّياتها، بقدر ما تقصد إثارة الإشكاليات التي تحيط بها، وافتعالها، وإبقاءها موضع التشكيك دوماً، للعودة إلى صيغ أخرى للحكم، تكون بدورها أقنعة لاستبداد باسم الدين أو القومية أو الثورة.

 

يخلص الكاتب إلى نتيجة يختصرها في قوله إنّ ازدواج الديمقراطية كشكل جامد للحكم، وكشكل متسامح للمجتمع هو الصيغة الأصليّة التي تمّ، طبقاً لها، عقلنة كراهية الديمقراطية مع أفلاطون. ويشير إلى أنّ هذه العقلنة ليست تعبيراً عن نزاج أرستقراطيّ، بل تفيد في تجنّب فوضى أو عدم تمايز مرعب أكثر من فوضى الشوارع المزدحمة بالأطفال الوقحين أو الحمير النافرة.

 

ويفسّر ذلك بأنّ عدم التمايز الأوّليّ بين الحكّام والمحكومين، ذاك الذي يتّضح للعيان حين يتمّ تجريد السلطة الطبيعية لمن هم الأفضل أو الأفضل مولداً من مكانتها؛ غياب اللقب الخاص للحكم السياسي للرجال المجتمعين، إن لم يكن غياب اللقب في حدّ ذاته. ويجد أنّ الديمقراطية هي، قبل كلّ شيء، هذا الشرط المتناقض للسياسة، هذه النقطة التي تواجه كلّ مشروعية غياب مشروعيتها النهائيّة، تواجه الشرط المساواتي الذي يرتكز عليه نقيضه ذاته.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى