الفصل الثالث عشر من رواية الأطلسي التائه …مصطفى لغتيري

الجسرة اثلقافية الالكترونية

المصدر / الصفحة الشخصية

تركت ورائي مراكش تتمرغ في حيرتها المزمنة، خلفت هناك حصيري الذي لازمني طويلا حتى أصبحت لا أعرف إلا به، بسببه سماني الناس “بو جرتيل” ،وسخروا مني بترديده، بيد أني منذ أن حصلت على البرنس الأسود الذي منحني إياه القاضي الأندلسي، حتى اكتفيت به، فهو يبدو لي مناسبا جدا ولا يثير الانتباه كما كان يفعل حصيري البائس.. مضيت في طريقي لا ألوي على شيء، سوى أن أصل في أقل وقت ممكن إلى وجهتي المرتجاة حاضرة أزمور المستقرة على الضفة الجنوبية لنهرأم الربيع، لقد هفت نفسي إلى شيخي الذي سألازمه مدة طويلة، و سأتعلم منه الكثير، لقد عرفت قبل أن أقصده بعض أخباره، فصيته انتشر في البلد، والجميع يتحدث عن علمه وورعه.. ابراهيم خليلي حدثني عنه بكثير من الحماسة، قال عنه أنه بدأ حياته معلما للصبيان، وكان في عمله هذا لا يقتعد الأرض أبدا، إنما يظل واقفا متكئا على عصاه ، فلا تغفل عينه أبدا عن المتعلمين، فيكون كسبهم أكثر، لذا قصده الناس من نواحي دكالة ومن غيرها طلبا للعلم، فوجدوا بغيتهم لديه.
الطريق إلى حاضرة أزمور منبسطة، لا مرتفعات فيها إلا تلال صغيرة أخطأت طريقها نحو المكان، كنت أمضي فيها بسرعة ملفتة، وحين ينال التعب مني، ألجأ إلى مكان آمن وأنال كفايتي من الراحة، ثم أستأنف المسير، حين يكثر ضجيج الأمعاء و يزيد عن حده، ألجأ إلى النباتات، أتناول منها ما يسكت عصافير بطني، وقد فتنتني بالخصوص نبتة يطلق عليها الأهالي “ونلكوط”، كنت أقبل عليها بكثير من الإصرار، وأبحث عنها في الأماكن التي أتوقع وجودها .. تكرر ذلك مرارا، حتى فطن الناس إلى فعلتي، فجادوا علي بلقب جديد هو ” بو ونلكوط”، لم أهتم بذلك كثيرا، فقد تعودت فضول الناس وانشغالهم بما لا يعنيهم، كما أنهم مفتوتون بالتنابز بالألقاب..
في الطريق تكررت مأساتي مع الناس، فلقد نسبوا لي قدرات خارقة، وزعموا كسابقيهم، الذين مررت عليهم في طريقي نحو مراكش، بأنني قادر على شفاء المرضى وإعطاء الصبيان للعاقر، و غير ذلك من الأوهام، حتى أنهم تفننوا في خلق الحكايات عن احتجازي في مراكش، فزعموا أن الحكام سجنونني ظلما، لكنني استطعت المرور عبر القضبان، فخر الحراس ساجدين، ومنهم من فر هائما على وجهه، لا يعرف لنفسه مستقرا.. حين كنت أسمع هذا الكلام لم تتملكني أي رغبة في الجدال، كنت أعرف أن الناس غريبو الأطوار وأنهم لن يصدقوا أبدا أنني مجرد عبد تافه لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا، فهم لن يصدقوا إلا ما زينت لهم أنفسهم وهم في حاجة إلى تصديقه..
كان الأطفال دوما لي بالمرصاد، فما إن تغفل عني عيون الكبار، الباحثين عن منفعة مفترضة في شخصي الضعيف، حتى ينبثقوا لي كالعفاريت من حيث لا أدري، فيتمسكون ببرنسي، ويسخرون من شاشيتي / قلنسوتي، ويتفننون في شتمي بأحط النعوت والأوصاف.. تحملت ذلك بكثير من الصبر والابتسام، حتى ملوا مني وتركوني لحالي بعد حين.
تكرر هذا الوضع في كل قبيلة أو قرية أحط بها الرحال، حتى كدت أيأس من أمر هؤلاء الناس، الذين لا يتعلمون أبدا، وإنما هم مصرون على تكرار أخطائهم بكثير من البلاهة، التي لا يتحرجون من رميي بها ظلما و بهتانا.
حملت معي اسمي الجديد الذي التصق بي كعاهة جديدة، يتوجب علي تحملها إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا. التهمت قدماي الجائعتان المزيد من الطريق، وبعد أيام أحسست بتغير النسيم من حولي، لقد أضحى أكثر برودة، تتخلله رطوبة تعلن عن نفسها صباحا بضباب كثيف، وفي الزوال بنوع من الدسم الذي يلتصق بجسدي، لقد تعودت أن يتبخر عرقي مباشرة بعد خروجه من مسام جسدي، لكنه اللحظة يلتصق بي فتصدر عنه روائح غير مستحبة. عرفت بحدسي أنني أدنو من البحر الذي أعرف أنه يتمدد على مسافة قريبة من هنا. استمررت في المسير، حتى لاح لي النهر الكبير، فعرفت أنني لو مشيت محاذيا له، سأصل وجهتي في وقت قريب، كانت أنواع من النبات شديدة الخضرة تتكاثف بضاحية النهر، أكثرها القصب الذي يتمدد إلى أعلى طويلا كثيفا.. استمررت أمشي محاذيا له، حتى لاح لي السور الضخم لمدينة أزمور. تهيبت من الأمر للحظة، ثم ما لبثت أن حسمت أمري وتوجهت نحو المدينة، كان علي أن أعد نفسي للقاء، وهكذا ما إن أشرفت على المدينة حتى اخترت لي مكانا مناسبا، وجلست هناك أرتب نفسي وأعدها لمرحلة جديدة في حياتي، لقد عاهدت نفسي على إقامة طويلة في هذه الحاضرة، في رفقة شيخي أبي شعيب، أغترف من معينه الذي لا ينضب، ولن أغادره حتى يسمح لي بذلك بعد أن يجيزني ويرضى عني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى