الفن والمعرفة والتواصل اللغوي في عالم يبحث عن حقيقة

عمار المأمون

تفتقر المكتبة العربية إلى الكثير من النصوص المرتبطة بما بعد الحداثة، إذ مازال الكثيرون يناصبونها العداء، بوصفها محاولات فارغة وانعكاسا لفشل في تقديم تفسير متماسك للعالم أو تغييره، لتبقى كلمة ما بعد الحداثة في الكثير من الأحيان تبريرا للرداءة، أو شماعة تعلق عليها الكثير من المصطلحات التي قد لا تنتمي إليها، وفي هذا السياق يمكن إدراج كتاب “في معنى ما بعد الحداثة-نصوص في الفلسفة والفن” تأليف جان فرنسوا ليوتار، وترجمة السعيد لبيب، حيث نقرأ أربعة نصوص لليوتار عن مفاهيم التواصل والفن واللغة وتعريف ما بعد الحداثة.
المعرفة الحكائية

يبدأ الكتاب، الذي صدر مؤخرا عن “المركز الثقافي العربي”، بمقدمة وافية يقدمها لبيب عن ليوتار وما بعد الحداثة، مستلهما من النص الشهير لليوتار “حالة ما بعد الحداثة ” الذي يناقش فيه الأخير مفهوم السرديات الكبرى والصغرى، والهيمنة العلمية على المعرفة، مفرقا بين المعرفة الحكائية والمعرفة الأدائية والعلمية، واتحاد المعرفة مع السياسة التي حولت العلم إلى نظام للهيمنة والتقنين.

وينتقل الكاتب بعدها إلى النص الأول الموسوم بـ “جوابا عن سؤال ما معنى ما بعد الحداثي”، وفيه يناقش ليوتار عددا من المقاربات لفهم الحالة ما بعد الحداثية، متناولا المفكر الألماني هابرماس بالنقد الشديد، وخصوصا نصه “الحداثة مشروع لم يكتمل”، معيدا بعدها طرح التساؤلات حول نصوص والتر بينجامين المرتبطة بالفن والهالة المحيطة به، وكيف تم التحول من سؤال ما هو الجمال؟ إلى سؤال ما هو الفن والأدب؟.

ويوجه المؤلف بعدها النقد للحالة النوستالجية التي يمارسها الفن الحداثي وخصوصا الفن التشكيلي، بوصفه يحاول استعادة صورة مطلقة وهميّة وتخيّل مثالي، ويمكن أن نرصد هذه النوستالجيا في نصوص ثيودور أدورنو ونظريته الجمالية، ليبدو موقف ما بعد الحداثة من الفن قائما على الإشارة واللعب والتلويح، والسعي إلى ما لا يمكن تمثيله، بوصفها مساحة للتفكيك وانعكاسا لتشظي الجسد البشري كوحدة مطلقة، إثر اكتساح رأس المال وهيمنته الوحشيّة عبر التسليع الممنهج لجوانب الحياة المختلفة.
ليوتار يقدم موقفه من عالمية المصطلحات، ويناقش أزمة عبور المعرفة من أوروبا إلى أميركا وخصوصا عيوب الترجمة
في النص الثاني المعنون بـ”إعادة كتابة الحداثة”، يناقش ليوتار دور ما بعد الحداثة بوصفها موقفا من التاريخ لإعادة كتابته، والإضاءة على جوانبه الخفيّة، منتقدا موقف الحداثة لإعادة قراءة الماضي بحثا عن جريمة ما، ومحاولة لفهم الخطأ الأول، أشبه بتقنيات علم النفس التي يعيد عبرها المريض سرد ماضيه بحثا عن الانحراف الأول عن الصواب، أو أشبه بتقنية فرويد للبحث عن صدمة أولى أدت إلى العصاب، إذ يستند ليوتار إلى نصوص الأخير لرسم مقارباته للمعرفة البشرية وللموقف من الحداثة، التي تحوي جذورا مرتبطة بالخطيئة الأولى، والتكرار الدائم لهذه الخطيئة، هذا التكرار رصده فرويد واستدل عليه في توصيفه لعقدة أوديب والانصياع للقدر، ليأتي دور ما بعد الحداثة في إعادة الكتابة، وإعادة الفهم خارج أطروحات الحداثة، فما بعد الحداثة هي إعادة كتابة لبعض سمات العصر، ومحاولة للخروج عن السعي المنهجي لمقولات الحداثة نحو التصنيف والتنظيم، فما بعد الحداثة بحث في ما تم تهميشه ونفيه بوصفه لا علميا.
سياسة الإخراج

يقارب ليوتار مفهوم السينما في النص المعنون بـ” اللا-سينما” حيث يناقش المكونات التي تشكل البنية الفيلميّة، ونظام تكوين سردية الفيلم، ليناقش دور المخرج السياسي في الحذف والانتقاء والترتيب، لتبدو النتيجة سلعية واستهلاكية ووظيفية خالية من اللذة، من الانحرافات والانفلاتات خارج النظام، التي لا تهدف إلى خلق الاتساق في البنية الفيلمية، بل مجرد انفلاتات نحو اللذة، أشبه بطاقة الليبيدو الضائعة والمناقضة لمفهوم التكاثر، مقاربة ليوتار للسينما تنبع من السعي نحو اللامنهجية واكتشاف الاحتمالات الجمالية الجديدة، بعيدا عن أنظمة التقييم التقليدية، ينسحب ذلك على أشكال الفنون الأخرى، وخصوصا الرواية بوصفها إعادة تكوين وبناء لعوالم تسعى لتمثيل الواقع، فكل من الرواية والسينما يقدمان تصورات عن الواقع، تصورات مضبوطة وفق إخراج معين لتكوين نظام ما ضمن الفيلم، إثر ذلك يطرح ليوتار مفاهيم البارودي ومقاربات ليندا هيتشيون عن الصورة كوسيلة لإعادة فهم هذا التمثيل للواقع.

في النص الرابع في الكتاب يقدم ليوتار موقفه من عالمية المصطلحات، ويناقش أزمة عبور المعرفة من أوروبا إلى أميركا، وخصوصا عيوب الترجمة ومحاولة خلق تعريفات متماسكة للمصطلحات، مناقشا مفهوم هابرماس أيضا عن الإجماع، منتقدا إياه وخصوصا في ما يتعلق بالاختلافات المعرفية لدى القائمين على النقاش في سبيل الوصول إلى “الإجماع العام” حول المعنى الاصطلاحي.

تصعب الإحاطة بنصوص ليوتار من كافة الجوانب، فهو ينتقل عبر عدة مقاربات وألاعيب في سبيل تفكيك وتشتيت المفاهيم، معتمدا على مرجعيات من علم النفس وعلم الجمال وعلم الاجتماع، لتتداخل المناهج مع بعضها البعض بحيث تنهار الفكرة المركزية التي تتم مُناقشتها، لتبقى بعدها المقاربة الما بعد الحداثية محافظة على الأساسين النظريين لها، عدم التعميم المفاهيمي ومركزية أشوفيتز.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى