الفيلم الروسي «العودة» لزفياجينتسيف: مفهوم السلطة ودلالاتها بين الموروث السياسي والديني

الجسرة الثقافية الالكترونية –

#محمد عبد الرحيم

عُرض مؤخراً ضمن النشاط الثقافي لمركز «بيت الوادي للدراسات والنشر» بالقاهرة، في إطار العروض الاسبوعية لـ «نادي سينما بيت الوادي» الفيلم الروسي «العودة»، وهو العمل الروائي الطويل الأول لمخرجه «أندريه زفياجينتسيف»، إنتاج عام 2003، وقد نال العديد من الجوائز العالمية، على رأسها جائرة الأسد الذهبي بمهرجان فينيسيا في العام نفسه.
والفيلم يحمل العديد من التفسيرات، نظراً للأسلوب الذي اتبعه المخرج في سرد الحكاية، فمن الممكن النظر إليها كحكاية بسيطة عن عودة رب أسرة ليتعرّف عليها من جديد، وكذلك هم، خاصة ابنيه، أو المُطالبة بالطاعة العمياء لسُلطة هبطت فجأة عليهما مُتمثلة في صورة (أب) مجهول التاريخ والهوية، سواء تمثلت وتباينت هذه السُلطة إلى سُلطة سياسية أو تراثية مقدسة. وهو ما يدعو إلى مُناقشة الفكرة الفلسفية للسُلطة حيث جوهرها وماهية وجودها، وارتباطها بالوعي بشكل عام.

الحكاية ودلالاتها
أندريه وإيفان شقيقان بالكاد على أعتاب المراهقة، الأول في حوال الخامسة عشرة، والثاني في الثالثة عشرة من عُمره. طباعهما المختلفة تبدو من المشهد الأول، فالكبير مُغامر، ولا يتردد في القفز من المرتفع نحو الماء وهو بين رفاقه، على العكس من إيفان الذي يلفه الخوف والتردد، فلا يستطيع القفز، ويجلس منزوياً، وإن كان أكثر حِدة وعناد. تقوم الأم بتربيتهما، فلا يعرفان سواها، ولا يعرفان والدهما إلا عن طريق الصور، حتى نسيا ملامحه الحقيقية. إلا أن الأب يأتي في زيارة مفاجأة بعد غياب اثني عشر عاما، كمحاولة منه إعادة صياغة هذه العلاقة مرّة أخرى. ويقرر الأب الذهاب مع ولديه في رحلة صيد لعدة أيام، حتى يختبرهما خلال تجارب قاسية، ومن خلال سُلطته التي يريد فرضها بأية طريقة، وحتى يصبح كل منهما جديراً بتحمل مسؤولية كونه رجلاً في المستقبل. ثم يذهب بهما إلى جزيرة معزولة في رحلة شاقة عبر قارب صغير، حتى يصلون إلى كوخ ناء مهجور، يبدأ الأب في حفر الأرض حتى يجد صندوقاً صغيراً، دون الاهتمام بالإفصاح عما يوجد داخله ــ الوعد بعالم آخر خفي، أشبه بلعبة تحقيق الأمنيات ــ ثم يُهدد إيفان بالقفز من مرتفع، هذه المرّة نحو الأرض، ويحاول الأب إنقاذه، فيسقط ميتاً، ويحاول الولدان الوصول به مُسجّى في القارب حتى السيارة، ويتركاه على الشاطئ، ليذهب المركب بجثته نحو البحر ويغرق، وسط دهشة الأخوين، والمناداة بصفته (بابا) في حزن. ويقرران في النهاية العودة بالسيارة من هذه الرحلة المفزعة، وقد تأكدا أنهما على يقين تام هذه المرّة بما سيفعلانه في حياتهما. فموت الأب هنا هو بداية الحرية لهما، وكان من الضروي أن ينتهي الأمر بموت السُلطة، مهما تباكى عليها أحد في لحظة، وهذه هي المفارقة التي يحاول الفيلم إيصالها، ونحن في حياتنا ووسط الأحداث التي تواجهنا نستشعر في الكثير من الشخصيات التوقف لحظة أمام سُلطة قاهرة ما، والتباكي عليها لحظة انهيارها، والخلاص منها. فالتأكد من حالة الموت يمنح الإحساس بالحرية، أكثر من حالة الغياب أو الفقد ــ شكل من أشكال القسوة ــ حتى يشب الصغار عن الطوق، ويبدأ الإنسان في تحمّل المسؤولية واحتمالها بالفعل، وليس بالأمنيات.

الإيقاع التأملي وتكثيف الرمز
لم يهتم الفيلم بسرد الحكاية، لكن التفاصيل التي تنسجها هي التي أدت لإيقاع الفيلم التأملي، وهو الذي يركز على تفاصيل اللقطة والإيحاء بشحنتها العاطفية، والعمل على إيصالها كاملة للمُشاهد، خاصة وأن الترميز الواضح للشخصيات هو الذي يعطي الفيلم قيمة جمالية وفنية كبيرة … من حيث الأب ممثل السُلطة، وكيفية التخلص منه ــ ولو مصادفة ــ والشعور بالحرية التي عبّرت عنها اللقطات الواسعة للبحر، بخلاف اللقطات نفسها في وجود الأب، حيث يشعر الشقيقان بالضياع والقهر، وانهما يخضوضان التجربة رغماً عنهما. هذا الإيقاع نفسه هو الذي يُعطي الحكاية بُعدها الأسطوري والتراثي المُستوحى من الكتاب المقدس .. الأب الميت كالمصلوب في المركب، وسقوط الحَبل كانفصام العلاقة تماماً بينه وبين ولديه، كإشارة إلى صعوده وتركهم يتحملون مسؤولية وجودهم. وما هو ما يُمثله الظهور المفاجئ للأب، خاصة مع غموض تاريخه وماضيه، وكأنه هبط على عالمهما ــ فقط ــ ليمرّا بالتجربة رغم قسوتها. ومن الممكن أيضاً أن يتحمل الفيلم بالتفسير السياسي لوضع الاتحاد السوفييتي وقتها، انهياره وتحلل دويلاته وانفصالها، ودلالة ذلك التباين الواضح بين شخصية كل من أندريه وإيفان، فالأول الذي يريد الشعور بحالة وجود الأب، والترحيب به رغم قسوته، والصغير يرفض هذه السُلطة، ولا يستطيع التعايش مع هذا الأب الذي ظهر له ــ لاحظ أن إيفان هو المتسبب في موته، ولو بالمُصادفة ــ ورغم البكاء على موته ــ كحالة تاريخية قصيرة من عُمره ــ مجرد ذكرى طفولية، إلا أنه يتماسك في سرعة، ويفكر في العودة، حتى لو وجد صورة فوتوغرافية في سيارة الأب (للأم وطفليها) حالة الحرية الأولى، المُتحققة بوجود الأم فقط معهما. وهنا يُحيلنا إلى حالة أسطورية بدائية عن شكل السُلطة في بداية تكوينها (سُلطة ميتريركية/أمومية) بخلاف السُلطة الذكورية التي أصّلتها الكتب المقدسة، وتخيّلت المقدس على شاكلتها

#القدس العربي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى