القاهرة تستعيد عبد الهادي الجزار رسام الثقافة الشعبيّة والماوراء

الجسرة الثقافية الالكترونية
*ياسر سلطان
استضافت قاعة «إبداع» في القاهرة أخيراً، معرضاً لأعمال الفنان المصري الراحل عبد الهادي الجزار، وهو يعد واحداً من أبرز فناني الرعيل الأول بعد الرواد، وإحدى أهم العلامات البارزة في تاريخ الفن المصري الحديث. ضمَّ المعرض عدداً من أعمال الجزار التي لم تعرض سابقاً، ورسوماً تحضيرية ودراسات بالأقلام الملوّنة والأحبار على الورق. وكان لافتاً استعانة القاعة بنصوص حوارية كان الجزار سجّلها للإذاعة المصرية، كخلفية مصاحبة للعرض، وتتضمن إضاءات مهمة حول تجربته. واستعانت القاعة بشريط فيديو»المجنون الأخضر» للفنان اللبناني وليد عوني، يسلّط الضوء على أحد أشهر أعمال الفنان الراحل. وعلى رغم قصر تجربة الجزار الإبداعية، إلا أنه خلَّف إرثاً فنياً كبيراً، وترك أثراً عميقا لدى كثيرين ممن تتلمذوا عليه، وكانت مادة خصبة لعدد كبير من الكتابات عموماً، والأطروحات الأكاديمية بخاصة. والجزار ترك دراسة الطب ليلتحق بمدرسة الفنون الجميلة العليا في القاهرة، والتي تخرج فيها في بداية خمسينات القرن الماضي، ليحصل بعدها على درجة الأستاذية في فن التصوير من أكاديمية الفنون الجميلة في روما. ولفتت أعماله أنظار أهل الفن في مصر فور انخراطه، بل ولفتت أيضاً عدداً من النقاد والمفكرين الغربيين، في مقدّمهم جان بول سارتر، الذي أبدى إعجابه بأعمال الجزار حين شاهدها أثناء زيارته الشهيرة الى مصر الناصرية برفقة سيمون دي بفوار، في شتاء عام 1967. واليوم، تعد أعمال الجزار من أكثر أعمال الفنانين المصريين طلباً لدى هواة الاقتناء في الشرق الأوسط، ومن بينها «المجنون الأخضر»، «فرح زليخة»، «السد العالي»، «المجاذيب»، و»قارئ البخت».
استقى الجزار معظم مفرداته من عالم الأساطير والطقوس الشعبية. وخيمت على أعماله أجواء من الحزن والغموض، وعبَّر في الوقت نفسه عن معاناة الناس وأحلامهم، بخاصة في تلك الأعمال التي أنتجها خلال ثلاثينات القرن الماضي أو أربعيناته، وهي الفترة الأغزر إنتاجاً في مساره، والأكثر تعبيراً عن رؤيته الفنية. ظلّت الوجوه المكدودة والأيدي المرتعشة وأشباح القهر تلوح في أعماله التي أنتجها خلال تلك الفترة مغلّفة بمسحة سوريالية، ومستلهمة العادات الشعبية التي عايشها في حي السيدة زينب في القاهرة، الذي انتقلت إليه أسرته الإسكندرية الأصل. ومن هنا، اهتمّ الجزار بالخرافات والعوالم الخفية، وعادة ما كانت أعماله تدمج النقوش ورسوم الوشم والتعاويذ السحرية. كان عبد الهادي الجزار يستشرف المستقبل ويستحضر الماضي في أعماله، ويمزج ذلك كلّه في شخوصه بحالة غرائبية بالغة العمق، وكان دائم التحليق بعيداً، يرى ما لا يراه الناس. وكانت تفاصيل الكثير من أعمال الجزار تبدو صادمة، لكنها كانت الأقدر بين أعمال معاصريه على النبش في مكامن الخيال.
فرح عبد الهادي الجزار بثورة 1952، وفُتن بجمال عبد الناصر، وأحسّ في قرارة نفسه بأن عصراً جديداً يفتح ذراعيه لبلاده، لتبدأ معالم مرحلة جديدة في أعماله امتلأت بالحلم. كان عبد الناصر يمثل لديه تجسيداً لذلك الحلم في التحرر، فرسم وجهه خريطة للوطن، رسم السد العالي، وجسَّد في لوحاته آمال الثورة وتطلّعاتها. لم يكن في سلوكه مداهنة للسلطة أو تملّق لأحد بقدر ما كان سلوكه نابعاً من إيمان حقيقي، كملايين غيره عاشوا ذلك الحلم وعاصروه في أرجاء العالم العربي، قبل أن يتهاوى على وقع الهزيمة في عام 1967، والتي لم يتسنّ للجزار تذوّق مرارتها، إذ إنه رحل في خريف عام 1966 بعد معاناة مع المرض، وهو في بداية الأربعينات من عمره.
يقول الفنان صبري منصور، وهو أحد تلاميذ الجزار القريبين: «كان إحساس الجزار بخطورة مرضه سبباً في ذلك الطابع المأسوي لإنتاجه، فهو أدرك منذ وقت مبكر أنه قريب من الموت، ما أرهف حاسّته الفنية وصبغها بصبغة حزينة، وجذبه نحو العالم المجهول الذي لا يدري كنهه أحد. والتقت في نفسه عناصر استمدّها من نشأته في أحضان الطبقات الشعبية المستغرقة في عالم الروحانيات، والتي تستمد قوتها من عناصر ميتافيزيقية ودينية، وإحساسه الشخصي بنهاية قريبة، ذلك كله دفعه نحو عالم غامض فأصبح أسيراً له».
ولعل ما يؤكد ذلك هو نزوع الجزار إلى كتابات غامضة، كان يضيفها إلى لوحاته التي تعكس ملامح روح هائمة في عوالم عجيبة. وعلى رغم أن مرحلة الجزار الأخيرة جاءت محاولة للثورة على فكرة الموت والتعبير عن الحلم، وتبدت في لوحات الماكينات وعصر العلم، إلا أنه لم يستطع التخلّص تماماً من علامات الموت والأسى في تلك اللوحات التي أنتجها في سنواته الأخيرة.