القاهرة عندما تزورها للمرة الاولى… مدينة الحكايات والواقع الذي يشبه الخيال

الجسرة الثقافية الالكترونية

*بشير مفتي

المصدر: الحياة

عندما تكون على موعد مع زيارة القاهرة للمرّة الأولى في حياتك، يخطر على بالك تلقائياً السؤال عمّا إذا كانت الصورة التي صنعتها سنوات قراءة الروايات المصرية والأفلام السينمائية متحققة في الواقع أم لا. فهل القاهرة الأسطورة هي القاهرة الواقع؟ ثم سرعان ما تكتشف أنه من الصعب جداً أن تجيب عن أسئلة كهذه، لأنّ في القاهرة تتداخل الأمور كلها ببعضها بعضاً. الحقيقة والسراب، الحلم والواقع، الأسطورة واليقين. عليك أن تقنع نفسك أنّ القاهرة هي هذا الخليط من كلّ شيء، هي هذا المزيج السحري المتعدد بين الخيال الذي صنعه الأدباء والفنانون على مر الأزمنة، والواقع الذي تزدحم فيه الحياة بكلّ همومها اليومية وتطلعاتها المستقبلية. إنها ببساطة شيء من كل شيء، توليفة تثير فيك الدهشة والسحر، ومرات التذمر والنفور. ولكن، بما أنها الزيارة الأولى وليس هناك متسع من الوقت لاكتشافها بعمق كبير، تجد أنّك ستُمنّي نفسك بأنك لا بد عائد يوماً ما لتتعرف إليها أكثر، وهذا ما يجعل المدينة وعدًا بسحر مستمرّ آتٍ لا محالة.

بعد غياب دام أربع سنوات، لأسباب معروفة، عاد مؤتمر الرواية العربية، في دورته السادسة التي رعاها وزير الثقافة السابق جابر عصفور من دون أن يُكتب له افتتاحها ومشاهدة وقائعها. وهذا ما جعل الناقد صلاح فضل يشير في افتتاح الملتقى إلى أن هذا الملتقى جاء تحت رعاية ثلاث وزراء للثقافة في فترة قصيرة جداً. ولعلّ الملاحظة الأولى التي يمكن أن نخرج بها هي أنّ التنظيم كان محكماً جداً نظراً إلى العدد الكبير من الضيوف العرب والأجانب، إضافة إلى المصريين طبعاً. ورأى أنّ الفضل في ذلك يعود إلى الفرقة الشابة التي أعطيت لها المهمة وقامت بدورها على أكمل وجه. وساهم إدراج أسماء روائية شابة في اللجنة التحضيرية، مثل طارق إمام وأحمد عبداللطيف، في فتح الملتقى على تجارب روائية جديدة لم تكن لتجد مكانها أمام الأسماء المكرسة. هكذا جاء المؤتمر متنوعاً في أجياله ورؤاه وخطاباته الروائية، ومع ذلك، ظلت أسئلة كثيرة تُطرح في الكواليس حول الحضور الروائي الجديد باعتبار أنه لم يأتِ بالحجم المنتظر منه في ظل كلّ هذا الغليان الروائي في مصر والدول العربية.

 

التنوّع الروائي

قد تكون ميزة هذا الملتقى هي المشاركة الكبيرة لروائيين وروائيات من مختلف الأقطار العربية، ما جعلنا ننظر إلى الرواية العربية على أنها تجارب متنوعة، وليست تجربة واحدة. واللافت أن الرواية العربية لم تعد واحدة منذ زمن بعيد ولم تعد تسقط في تيار أحادي كما جرت العادة في سنوات خلت عندما سادت فترة تجريب شملت غالبية الروائيين، أو مرحلة التأصيل التي كان لها صداها في العودة بالسرد إلى التراث والاستفادة منه في بناء الرواية ومنحها هوية خاصة بها.

باتت التعددية تطبع المشهد الروائي العربي الكبير من المحيط إلى الخليج. وربما طغت الفردانية والأصالة الذاتية على غالبية الكتابات الروائية، مع رغبة ملحة في الوصول إلى عالمية منشودة (يعترف الروائي العربي بأنه لم يحققها بعد على رغم الترجمات الكثيرة إلى لغات أجنبية). ولكن، هل يكون الطموح نحو العالمية على حساب القضايا المحلية؟ وهل يجب أن يتعارض المحلي مع العالمي؟ وهل تشترط العالمية اليوم تنازل مواضيع محددة مرتبطة بما سمّي الثالوث المحرم؟… فالروائي العربي اليوم يدرك الفخاخ المنصوبة له في دور النشر الغربية، كما يدرك أنّ عليه إيجاد التوليفة المناسبة التي تُنقذه من السقوط في فخ العالمية المشروطة بـ «الإيكزوتيك» وتناول «التابوات» بسذاجة سطحية، أو بخلفية واضحة، كأنّ الكتابة يجب أن تكون مدفوعة بهدف الترجمة المنتظرة.

لا شك في أن الروائي العربي يدرك كل ذلك وهو يريد أن يعلن رغبته في أن يكتب وفق ما يمليه عليه شرطه الروائي، وليس إرضاءً لطرف هنا أو هناك. علماً أن ثمة من لا يولي الأمر كبير عناية ولا يفكر سوى في «الشهرة» مهما كان ثمنها فادحاً، ويعتقد أن الطريق إليها هو الأهم.

وعلى رغم أن الموضوع لم يُتطرق إليه في محاور الملتقى، ظلّ الحديث عن الجوائز هو الأكثر انتشاراً بين الكتاب والنقاد، وتذمر بعضهم من هذه الجوائز التي تُفسد – برأيهم – الذوق الأدبي. وثمة من يُطالب بذلك جهاراً كالروائي السوري خليل النعيمي الذي ينادي بأدب عربي «من دون جوائز». وثمة من يطالب بتصحيحات على تصورات الجائزة ولجان تحكيمها وغير ذلك، وغالبية الشكاوى جاءت من الأسماء المكرسة سابقاً، والتي تشعر بأن جائزة مثل البوكر لم تعد تُمنح إلّا لكتاب شباب لم تنضج تجربتهم بعد، على عكس من عبّر عن سعادته بالجائزة التي كسرت طوق الحصار على النصوص الروائية الجيدة، بغض النظر عن «سنّ» صاحبها. وربما فوز الروائي بهاء طاهر بجائزة هذا الملتقى وتصريحه بأنه تمنى لو تمنح لروائي شاب قد أثار غيظ بعض «الكبار» ممّن يعتبرون أن جوائز معينة تخصهم وحدهم ولا مكان للشباب فيها. لكنّ النقاشات حول الجوائز ظلت تشبه «النميمة الثقافية» أكثر مما هي حديث جادّ، وهذا يعني أن كل كاتب يحلم بأية جائزة شرط أن يكون هو الفائز بها.

 

ملتقى الأسئلة

أهم ما يخرج به المتتبع هذا الملتقى هو حجم الأسئلة التي طرحت وقلة الأجوبة التي قدمت، بخاصة من طرف الروائيين العرب الذين قدموا في شهاداتهم أسئلة، خاصة وعامة، عكست في معظمها قلقهم من الرقابة، حرصهم على الحرية في الكتابة، شكوكهم حول اليقينيات المطروحة أمامهم، مخاوفهم من انهيارات الواقع العربي نتيجة توترات عنيفة، وانفجارات حادة. فجاءت الأسئلة حارقة من نوع: ما مكانة الكتابة الأدبية في بيئة ساخنة ومتفجرة لم تحسم موقفها بعد من قضايا كثيرة؟ ولعل ما قاله الروائي التونسي الحبيب السالمي في هذا المجال مهم جداً: «نحن نكتب عن الحداثة وندافع عنها في مجتمعات عربية قديمة جداً». ولا شكّ في أنه كان «مهذباً» في استخدامه الصفة «قديمة» وليس «متخلفة جداً». فالواقع العربي يسوده التطرف والتشدد والانغلاق، وبات يحتلّ يوماً بعد يوم، مساحات كثيرة في هذا الجسد العربي الهشّ. وقد يُضعف هذا الواقع من تأثير الأدب نفسه، وهذا ما أكده الروائي اللبناني رشيد الضعيف، ولقد كان سؤال جدوى الرواية أو الكتابة على رغم تزايد شعبيتها في السنوات الأخيرة مطروحاً بقوة، ماذا تفعل الرواية العربية أمام الانهيارات التي تحدث أمامنا؟ ومن تنقذ الكتابة في النهاية، الكاتب أم مجتمعه؟ وهل يمكن أن يتوهّم أي كاتب بأن يكون له تأثير كبير في واقعه، وهو يدرك أن سحب رواياته لا يتعدى في أحسن الأحوال ثلاثة آلاف نسخة؟ أمّا أصحاب المبيعات العالية مثل أحلام مستغانمي وعلاء الأسواني وأحمد مراد فهم يقعون خارج دائرة هذه النقاشات النخبوية التي لا ترفضهم تماماً، ولكن لا تعلي من شأنهم كثيراً.

تدهشك القاهرة بغزارة إنتاجها الروائي، فحيثما تحلّ أو تذهب تجد عشرات، بل مئات الروايات الجديدة، بعضها يطلق عليه «تجاري» وبعضها «الأكثر مبيعاً». وتُتّهم دور نشر محترمة بأنها تدعم هذه الاتجاهات الجديدة في كتابة روايات الرعب والنوع البوليسي والجنس التي تعرف إقبالاً كبيراً من طرف الشباب المراهق خصوصاً. ولكن، على هامش كلّ هذا، تحاول الرواية الجادّة أن تظلّ حاضرة بنكهة متميزة ومختلفة، وهي معركة جيل جديد في الرواية المصرية يمثّله عدد من الروائيين الجدد مثل محمود الفخراني، حمدي الجزّار، وحيد الطويلة، طارق إمام، أحمد عبداللطيف، محمود الغيطاني، مجدي همام… وهي معركة طويلة الأمد، لكنها لم تعلن استسلامها قط.

تختلف القاهرة عن المدن العربية الأخرى لأنها مدينة كبيرة تحتشد فيها أرواح ملايين من البشر الذين يعيشون تحت ضغط كل هذا الاكتظاظ والتوتر اليومي ويقاومون كل ذلك بسخرية جميلة. وعند سؤالي عنها أُجبت: «يا لها من مدينة عظيمة، إنما هي ككل المدن العربية، لها شكل مدينة وسلوك تنتفي فيه روح المدينة». لكنّ السمة الغالبة والجميلة في «القاهرة» تظل هي الثقافة بكلّ أنواعها وأشكالها وصورها المختلفة. هي مدينة ثقافية بامتياز.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى