القصيدة العامية المصرية تخيف النقاد

خالد حماد

ظهرت أجيال جديدة من شعراء العامية المصرية، تعمل على استقطاب جمهور الشعر، إلا أنه لا يوجد اعتراف ضمني حقيقي من المؤسسة الثقافية المصرية بشعر العامية المصرية.
ليس هناك خطر

لا يرى الشاعر أسامة البنا أن كتابة العامية بعيدة عن النص الفصيح، فاللغة هنا وهناك، في رأيه، هي مجرد أداة واحدة لا أكثر بين أدوات عديدة. وهناك كتابات عامية ذهبت بعيدا بمحاذاة قصيدة النثر (بعيدا عن فكرة الإيقاع الواضح النمطي أو الخفي).

وعن مشكلة نقد العامية يستطرد البنا “هي مجرد جزء من مشهد النقد لكل الأجناس الأدبية، بل على العكس هناك عدد كبير من النقاد المصريين يقفون موقف المندهش في التعامل مع قصيدة النثر، ومعظمهم لا يجد أدوات حقيقية للنقد، لأنه مازال مرتبكا في فهمه لطبيعة ووظائف ومعطيات هذا النص”. ويؤكد الشاعر على أن أزمة القصيدة العامية ناتجة عن اعتقاد الكثيرين بسهولة كتابتها، وهذا اعتقاد مضلل، لأنها لم تعد الزجل النمطي بموسيقاه الصاخبة وبكتابة الحكم والمواعظ في سياق طربي. النص العامي الآن يطرح رؤى فلسفية متعددة التأويل وكثيرا ما يزاحم نصوصا فصيحة في تعدد الرؤى.

ومن جانبه، يؤكد الناقد محمد علي عزب على وجود عدة أسباب للفقر النقدي الذي يعاني منه شعر العامية، وأهم تلك الأسباب هو النظرة الدونية إلى قصيدة العامية أو اعتبار أنها مجرد تابع لقصيدة التفعيلة الفصحى. كما أن هناك نقادا يرون أن تناولهم لشعر العامية قد يتسبب في اتهامهم بمحاربة شعر الفصحى، بل ومحاربة العربية الفصحى ذاتها، رغم أن كل اللغات صالحة للشعر.

ويوضح عزب أن القصيدة العامية تختلف في بنائها الموسيقي عن قصيدة التفعيلة الفصحى، فالقصيدة العامية موسيقاها قائمة على التنغيم واعتصار موسيقى الكلمات والمزج بين التفعيلات المتقاربة. هذا بالإضافة إلى اتكاء قصيدة العامية على تراث فنون الشعر العامي السابقة لها، وتغوص في الوجدان الشعبي وتنبش في طبقات العامية وفي الذاكرة الثقافية الجمعية.

يرى عزب أن سبب تراجع النقد راجع ربما إلى اعتقاد بعض النقاد أن انتشار الشعر العامي يؤثر سلبيا على شعر الفصحى، وعلى العربية الفصحى ذاتها، وخوفهم من الاتهام بمناصرة الشعر العامي نكاية في شعر الفصحى وأنهم يشنون حربا على اللغة العربية. وهذا في رأيه قصور في الوعي بالتراث والحاضر الراهن والوعي بالفرق الجوهري بين عامية اللغة وعامية الشعر. يقول الشاعر سعيد شحاتة “شعر العامية بخير وسيظل لأنه صناعة محليّة لا يمكن لأي انفتاح أن يؤثر عليها، فالشعر الذي عجن بتراب وتاريخ هذا البلد لا يمكن أن يتخلى عنه أهل هذا البلد، الشعر الذي يترجم عواطف ومشاعر وأوجاع البسطاء والكادحين ويعبر عنهم بصدق منذ أن عرفه المصريون لا يمكن أبدا أن ينصرف عنه أهله”.

ويضيف الشاعر “نحن بالفعل بصدد تجارب مهمّة، معظمها إضافة حقيقية لمشهد شعر العامية في مصر، فالغياب لا يقضي على الحضور، نجم والأبنودي من جيل الأساتذة ورحيلهما مؤثر بالفعل، وإن رحل قبلهما فؤاد حداد وصلاح جاهين، وفؤاد قاعود، وقبلهم بيرم التونسي، فقد بقي إبداعهم علامة مضيئة لمن جاء بعدهم، وسيأتي من يضع بصمته وسيرحل ليحل محلّه آخر، دائرة لا تنتهي وإبداع يأتي من الشارع ليعود إلى الشارع ومعين الشارع المصري لا ينضب”. ويؤكد شحاتة أن العامية ليست مهمّشة من المؤسسة الثقافية، فمعظم ما نراه من إبداعات ودواوين في العامية ينشر من قبل مؤسسات الدولة، لكن التهميش الحقيقي للعامية يكمن في جوائز الدولة، متسائلا لماذا لا تحدد جائزة سنوية لشعر العامية في جوائز الدولة شأنه شأن الفصحى؟

من جانبه، يشير الشاعر مدحت منير إلى أن سؤال توقف الإبداع عند جيل معين يمكن أن يوجه إلى الكثير من الأنواع الأدبية عامة والشعر بشقيه (عامي وفصيح) بصفة خاصة، يقول “لم يتوقف الإبداع في الشعر الفصيح بعد رحيل أمل دنقل وصلاح عبدالصبور وغيرهما من رواد الشعر العربي الفصيح”. ويتابع الشاعر “الجيل الذي فتحت عيناه أول ما فتحت على نكسة 67 وما تلاها من إبطال لمحركات الحداثة على المستوى المادي والمعنوي فارتد الفضاء الثقافي، وكانت المفارقة هي دخول الكثير من كتاب ومثقفي هذه اللحظة وما تلاها عصر ما بعد الحداثة وأدواته، فكانت العزلة هي النتيجة المنطقية لذلك”.
صمود العامية

تؤكد الشاعرة دعاء فتوح أن كل شاعر من شعراء العامية المعروفة أصواتهم وأهميتهم الخاصة، مثل فؤاد حداد، وصلاح جاهين، والأبنودي، وأحمد فؤاد نجم، وسيد حجاب،..وغيرهم، ورغم تفاوت منجز كل واحد منهم تجاه الشعر بأسبقية لا يمكن إغفالها لصالح حداد ومن بعده جاهين، إلا أن ما يميزهم في رأي الشاعرة هو التزام كل شاعر منهم بتجربته التي تشبهه تمام الشبه، فتجاربهم كانت إنسانية وعميقة، وملتصقة بذواتهم المنفتحة على التراث من جهة، وعلى واقع عصرهم من جهة أخرى.

وإن كانت الأجيال الجديدة قادرة على وضع بصمتها، تؤكد فتوح أنه لا يوجد مطلق لا يمكن كسره والحياة تتحرك إلى الأمام، ولكل عصر أهله، فيما ترى أنه لا يمكنها الحكم على هذا الجيل لأنها جزء منه، ويستحيل عليها رؤيته من أعلى، لكنها تؤمن بقدرة الغد على الاستمرار وقدرة الزمن على الاحتفاظ بكل تجربة صادقة وجادة. أما نظرة شعراء الفصحى إلى شعراء العامية فهي ليست جديدة، كما تقول الشاعرة “شعراء الفصحى السابقون في عصر حداد وجاهين قالوا إن العامية مجرد ظاهرة لن تصمد، والمفارقة الغريبة أن منجز حداد تحديدا من حيث التجريب على مستوى الشكل والصورة والموضوع فاق أغلب أولئك الشعراء”.

بعض النقاد يعتقدون أن انتشار الشعر العامي يؤثر سلبيا على شعر الفصحى، وعلى العربية الفصحى ذاتها، وخوفهم خاطئ
ومن جانبه، يشير الشاعر عبدالستار سليم إلى أن العامية المصرية هي إحدى اللهجات المبدعة والعبقرية في آن واحد، فقد استطاعت، عبر مسيرتها الطويلة والمتأنية، أن تمصّر (بتشديد الصاد) الكثير من المفردات حتى غير العربية، وهي كذلك تمثل أحد أركان الشخصية المصرية ذات الماضي الطويل والعريق، ولذا يعتقد الشاعر أن هذه اللهجة، التي يمتد عرقها إلى اللغة الأم وهي العربية الفصحى، لن تغيب أو تتراجع.

ويقول سليم “تتميز العامية المصرية ببعض الخصائص التي جعلت لها هذا التواجد المتمكن، أولها أنها ابنة شرعية للعربية الفصحى بما للفصحى من إمكانات وقدرة وحيوية على الإبداع، وثانيها أنها قادرة على التطور والتطوير، وثالثها أنها لغة المصريين بتاريخهم وحضارتهم الضاربين في أعماق التاريخ، ولقد قيّض لها الزمن مبدعين كبارا كانت هي أداتهم في التعبير الفني الذي استمر عبر مراحل زمنية طويلة وبارزة، فهي لغة أو لهجة استطاعت أن تغري حتى غير المصريين باعتناقها كلغة إبداع، وجعلت منهم نجوما وروادا في الشعر مثل محمود بيرم التونسى وفؤاد حداد اللبناني وغيرهما الكثير، كما أنها استطاعت أن تبرز، وبكفاءة عالية، كل المشاعر الإنسانية للمتحدثين بها، أما هذا التخوف والذي حدا بنا إلى طرح هذا الموضوع، فأنا أعتقد أن سببه الرئيس هو إهمال النقاد كل ما هو عامي، وهذه العقدة الفكرية قديمة فمثلا ابن عبدربه وأقرانه أخذوا موقفا مماثلا متعصبا ضد الموشحات والأزجال فى عصرهم، بحجة الخوف على الفصحى كذلك قال أمير الشعراء أحمد شوقى إنه يخشى على الفصحى من من عامية بيرم التونسى”.

(العرب)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى