الكتاب في زمن «الفايسبوك».. على طريق «الجلجلة

الجسرة الثقافية الالكترونية

معمر عطوي

 

لطالما كان معرض الكتاب العربي الدولي جزءاً أساسياً من المشهد الثقافي لمدينة بيروت؛ يضخ في قلب العاصمة دماً جديداً آتياً على أجنحة الورق المكتوب من كل أصقاع العالم وبلغات عديدة، وهي التي لا تزال تعيش تداعيات الحرب الأهلية رغم مرور ربع قرن على انتهائها.

هذه التظاهرة الفريدة التي تشكل فرصة للقاء المثقفين مع «خير جليس» ولقاء الجمهور مع كتَّابهم المفضلين، بدت هذه السنة مثيرة للحزن، وكأن القارئ يسير على طريق «الجلجلة».

فمعرض الكتاب في دورته التاسعة والخمسين في «بيال»، بدا، هذا العام، في أرذل عمره، إذ تراجع الاهتمام الرسمي به كما تراجعت اهتمامات القيمين عليه في تأمين الراحة لزواره. وذلك بخلاف دوراته السابقة التي تغلب فيها على الكثير من المشكلات؛ الاقتصادية والأمنية مروراً بالعقد التربوية التي تحد من القراءة وصولاً الى مزاحمة التكنولوجيا للكتاب.

المشكلة تبدأ من الطريق الى المعرض. طريق وعرة مليئة بالحفر وغبار الشاحنات التي تعمل في انشاءات «سوليدير» وأخواتها. طريق ضيقة تكاد لا تتسع سوى لسيارة وشاحنة، وعلى المشاة تدبر أمرهم لتجنب الوحول والغبار والاحتكاك بالسيارات حتى يصلوا الى «صديقهم» الكتاب، في كامل أناقتهم التي تلائم قيمة الحرف.

ومع الوصول الى ساحة المعرض، تبدأ إشكالية جديدة حول كيفية ومكان ركن السيارة، فلا وجود لموظفين يرشدون الزائر الى المكان الصحيح، ولا لافتات أو إشارات تلفت نظر الزبائن الى ساحة الوقوف التي هي رغم المساحات الشاسعة المحيطة بالمكان، لا تتسع لعربات الزوار.

يصل رواد الكتب الى مقصدهم بعد معاناة مع الازدحام والغبار المتصاعد ومستنقعات المياه الآسنة. مظاهر لا تلائم ابداً تظاهرة حضارية بحجم معرض دولي للكتاب، على عكس ما نشاهده حول أمكنة الترفيه القريبة من المكان، حيث يمكن الزائر أن يصل الى الأسواق التجارية ودور السينما وملاهي الليل وملاعب الأطفال «الداون تاون»، بأسهل طريقة من الرفاهية والنظافة والخدمة المتواصلة على مدار الرحلة ذهاباً وإياباً.

هذه السياسة التنظيمية الفاشلة التي تؤكد لامبالاة المسؤولين عن النشاطات والفعاليات الثقافية، بل إهمالهم لأهم مرافق ينبغي أن تتوفر للذاهبين الى لقاء عظماء الفكر والثقافة والعلوم بين طيات الكتب.

تحديات

وكأنه لا يكفي ما يواجهه الكتاب من تحدي منظومة متكاملة من وسائل الاتصال والتواصل التكنولوجي و «الاجتماعي»، حتى يأتي تحدٍ آخر عبر نشر المعوقات اللوجستية ووسائل الوصول والراحة لمن يبحث عن كتاب. فثمة تحد واضح نشهده اليوم يبدأ بالكتاب الالكتروني مروراً بالمعلومات المشتتة التي يقدمها الانترنت للقارئ أو للباحث عن معلومات، وصولاً الى المقالات «الالكترونية» الجاذبة والسريعة، ووسائل الترفيه، والتي تصرف الإنسان عن القراءة وتسلبه عالمه الجميل بطريقة عجيبة.

أما لعلاقة الزائر بالمعرض ، فثمة حكاية أخرى، تتبدى ملامحها حين نشاهد معظم رواد هذا النشاط الثقافي، إما تلاميذ مدارس أجبرتهم إدارات مؤسساتهم على زيارة المعرض بشكل جماعي، فاكتفى جلهم بالمشاهدة، أو اشترى بعضهم ما بخس ثمنه وخف حمله، بينما لجأ الآخرون الى أجنحة تهتم بالكتاب الالكتروني أو بالالعاب والشاشات «الليد» وأجهزة الترفيه الالكترونية.

وقد يكون هذا حال المثقفين ومن اعتادوا على القراءة منذ حداثة أعمارهم. فالغلبة لمن يقيم حفل توقيع، بغض النظر عن مضمون الكتاب الموقّع. وهنا تدخل العلاقات الشخصية والإحراجات – على الطريقة اللبنانية – لتساهم في جمع أكبر عدد ممكن من الحضور. والحضور هنا اقسام: منهم من أتى لإرضاء صديقه الكاتب وأخذ صورة «سيلفي» معه، ومنهم من اضطر غير باغ بعد أن شاهد صديقه الكاتب جالساً على طاولة التوقيع وأمامه صينية الشوكولا، فسقط في فخ الشراء. ومنهم من ذهب قاصداً شراء كتاب من الشعر أو رواية او غيرها، لكنه لا يريد المضي قدماً في البحث فيكتفي بشراء كتب لا يدرك مضمونها، بقدر ما يهمه توقيع صاحبها.

وكثيراً ما يصادر شراء هذا الكتاب كتاباً آخر «لصديقنا» الزائر الذي أتى للمعرض وفي جيبه بضعة آلاف من الليرات لشراء كتاب معين أو مرجع علمي يحتاجه في بحثه أو جامعته فحرم منه او اضطر لزيارة اخرى.

هذا واقع حقيقي يعيشه اللبناني مع معرض الكتاب، خصوصاً السنة الحالية التي تفاقمت فيها الديون والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فبات القارئ يبحث عما هو مفيد ورخيص. لهذا تمكن ملاحظة هذه المشاهد في معرض تقصده الغالبية لتسجيل حضورها لدى أصدقائها أو للمكوث في المقهى، على طريقة الوجاهة اللبنانية وادّعاء التثقف. او قد تكون زيارة المعرض بدافع الغيرة فيكون السبب الاساسي لقاء الاصدقاء.

بيد أن الأهم من كل ذلك بالنسبة لمحبي القراءة وجود كتب عربية وعالمية لا تتوفر في لبنان الا من خلال هذه التظاهرة الفريدة.

في أي حال لا معرض الكتاب بقي معرضاً مرموقاً كما عهدناه من أيام القاعة الزجاجية في الحمراء منذ الثمانينيات والتسعينيات، ولا طريقه مفروش بالورود والياسمين، ولا أسعاره تشجع المواطن على الصمود أمام زحف المعلومات الالكترونية، الأوفر سعراً والأسرع وصولاً والأسهل منالاً. ولعل أفضل طريقة لترويج وتشجيع القراءة تبدأ بتوفير السبل، فكيف اذا كانت السبل مشحونة بالمعوقات؟ هل هي خطوة أخرى لقتل «خير جليس» في زمن «الفايسبوك»؟

المصدر: السفير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى