اللاجيء الفلسطينيّ بين ماضٍ مسلوب وإنسانية منتهكة / صونيا خضر

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

سيرتي المتخيلة لبسام جميل

 

“في بلاد الياسمين ، أجمل وجه قد تراه قبل مقتلك هو وجه قاتلك الرحيم حين يختار لك رصاصة لتموت بها، أنت إنسان وتستحق الموت كإنسان لا كالنعاج وغيرها” 

هكذا قال وليد في نفسه وهو ينساق مثل نعجة خلف قاتله مستسلماً لفداحة الأمر، وهكذا صوّر وجه قاتله الذي لم يكن رحيماً معه، هكذا صوّر وجه البلاد التي لم تكن طيّبة معه أيضاً وهكذا كان يريد التمسّك بآدميته المنتهكة منذ بداية السرد 

وقد حاول المؤلف الحقيقي لتلك السيرة المتخيّلة أن يربط من جأش وليد أمام كل الأسباب التي سوف تدفعه للهياج من طفولة منتهكة، لجوء وتشرّد وفقدان وعلاقات غير منطقية وفشل عاطفيّ وكأنه يخشى على بطل سيرته من قوة الغضب التي قد تسحبه إلى موت حقيقيّ أو مجازيّ قبل أن يكتب تلك الرسالة لمريم التي اختار لها مكاناً مستعاراً (كالإسم الذي يعرفها به)  في آخر الرواية، بدلاً من مكانها الحقيقيّ وهو قلب الحكاية خشية الخروج عن حالة الغموض التي اختارت مريم أن تدخل النص أو الحكاية من خلالها إليه بمحاولة منها أن لا تخرج من الحكاية ولا مؤلفها أبداً..


ويبدو هذا واضحاً من خلال خروج المؤلف عن حالة التباطؤ التي اعتمدها بالنص حين أفلت عنان هذا الغضب وأخرجه عن طوعه في مشهد المباراة السريع وأظهر أن فقدان وليد لصوابه سيدفعه لارتكاب جريمة لولا تدخل المحكّمين الذي حرص على تواجدهم حين تخيّل أو كتب هذا المشهد، ثم عاد ليتباطأ ويتثاقل بالنص وهو يلجم صوابه حين وفّر له قاتله ضعيفاً مستجدياً أمامه واكتفى بأن يجعله يطلق النار على ساقه بدلاً من الاجهاز عليه تماماً كما ينبغي ، وينتهي من هذه المسأله بقول وليد : “وكالماء كانت الاشياء تسيل من أصابعه ” وكأن لا حول له ولا قوة لوليد ليقرر موته أو غضبه ساعة يشاء.

بدأ المؤلف تلك السيرة باستهلال جريء وتحديداً في السطر الذي قال فيه: “هي حرارة كوابيسي الساخنة يا أمي داخل رأسي وليست حرارتي” وكأنه يقول هي سيرتي الحقيقية أيها القاريء وليست المتخيلة كما ستبدو لك بناء على العنوان الذي اخترته لها، إذاً يبدو أن القاريء هنا أمام سيرة فعلية للمؤلف بغض النظر عن أسباب كتابتها التي لا يعرفها سواه أو محلل نفسي سيقرأها فيما بعد، هذه القفزة الجريئة بالاستهلال كانت خطوة ذكية للمؤلف الذي وعلى ما يبدو يدرك شغف القراء بالولوج إلى الحياة الخاصة لأشخاص حقيقيين رغم محاولاته فيما بعد للاستذكاء والاستخفاف بعقل القاريء عن طريق زجّ شخصية لا لزوم لها وهي الراوي وهي واحدة من أخطاء المؤلف الّا إن افترضنا أنه افتعل هذا الخطأ لسببين؛ أولهما وهو الأهم هو إدراكه لوجود قاريء نموذجي وهذا النوع من القراء لن يكترث بأمور المؤلف الشخصية بقدر ما سيهتم ويعنى بقراءة عمل روائي مثير ، وثانيهما هو إدراكه لوجود قاريء عكس الاول تماماً وهو من محيطه القريب واصدقائه وعائلته وكل ما سيعنيه ساعة قراءة هذا العمل هو أن يعرف أكثر عن شخصية المؤلف، وبهذا يكون جميل قد حقق عصفورين بحجر أي شريحتين من القراء وترك لكل شريحة الدخول والتجول بالنص حسبما يريد ووفق موقعه من دائرة المؤلف.

وعطفاً على الفقرة اعلاه فمن الجدير بالذكر أن الكاتب ودون أن يتعمّد اختيار قرائه جعل بمقدور  أي قاريء أن يحقق غايته من القراءة حين يقرأ “سيرتي المتخيلة”؛

 فالقاريء الذي ستعنيه قضية الاعتداء الجنسي والطفولة المنتهكة  في بداية السرد سيحيل كل احداث الرواية إلى تلك القضية ويحيل كل تداعياتها إلى الخلل النفسيّ الذي حلّ بذلك الطفل وأدى إلى كل تلك التراكمات السيكولوجية التي اربكت شخصية وليد فيما بعد ، بينما القاريء الذي ستعنيه قضية اللجوء ووواقع اللاجيء الفلسطيني في المخيمات السورية تحديداً، سيجد مبرراً لأن يكون الواقع الموصوف ببداية السرد كالاعتداء الجنسي والطفولة المنتهكة، وبالسياق كالتشتت واللجوء داخل اللجوء خلف اللجوء والفشل العاطفي هو نتيجة منطقية لتداعيات ذلك اللجوء من احداثيات مكانية وزمنية ونفسية .

أما القاريء الذي ستعنيه الرواية العاطفية فسيقرأ بالرسالة آخر الرواية كل ما سيرضيه كعاشق وكل ما سيعزز ايمانه بوجود الحب .

مع اني أكاد أجزم أن الكاتب فعل ذلك عن دون قصد فهو لم يتعمّد اختيار قراء روايته ولم يتعمّد أن يكون كاتباً غامضاً ذلك أنه سرّب عن طريق العنوان والاستهلال أنه يقول “أنا” بمعنى “أنا الذي يكتب روايتي فعلياً وليس شخصاً آخر، بمعنى أن القاريء أمام بطل حقيقيّ لسيرة متخيّلة، فكما نعلم فإن النص آلة كسولة ، تتوقف تتباطأ أو تتثاقل أحياناً وهذا ما يجعل القاريء يشعر بالملل أو الرغبة بمغادرة النص، لولا أنه يعود ليتذكر أنه أمام شخصية حقيقية مما يدفع الفضول لحثه على الاستمرار وخلق حالة من الشغف لديه  لمعرفة المزيد وتجاوز الأجزاء التي لا تعنيه كثيراً من الرواية ، وهنا يجدر القول أيضاً بأن الكاتب ساهم بذكاء لخلق هذه الحالة لدى القراء حين أكثر من الشخصيات التي ستأخذ على عاتقها القيام بأفعال تزيد من تسارع النص وكثافته، وأرجأ حصول بعض الشخصيات الى نهاية الرواية مع تسريب إشارات لقرب حصولها  بحيث يستطيع تحقيق كل الأحداث التي قدّر أنها ستكون ثقيلة أو غير جذابة لكل قاريء حسب تصنيفه مما ورد بالفقرة أعلاه.

“سيرتي المتخيلة ” للكاتب الفلسطيني بسام جميل إن اختصرناها  بصفحة واحدة فهي تنقسم إلى ثلاث فقرات 

الفقرة الأولى يتحدث فيها عن طفولة اللجوء وواقعه والبيئة المحيطة به التي تؤدي إلى تآكلات وندوب على الصعيد الانسانيّ للاجيء، وقد أورد الكاتب حادثة الاعتداء الجنسيّ كمثال لا حصر للانتهاكات الخطيرة التي قد تحصل نتيجة لذلك.

الفقرة الثانية يتحدث فيها عن شباب اللجوء وتشتته وغضبه وانسياقه لأحوال لم يكن لينساق إليها وتورطه بمنزلقات خطره لم تكن بحسبانه  لولا تورطه أصلاً بذلك الواقع المرير، وقد صوّر لنا المؤلف ذلك من من خلال المشاهد التي كان بها وليد يمارس شغفه بالقراءة وميله الشديد لتقديم المساعدة لمن يحتاجها .

أما الفقرة الثالثة فيتحدث فيها عن الحلم في واقع اللجوء، ذلك الحلم الذي لم يكن بالامكان أن يتحقق حتى وبعد أن طرأت مريم على الحكاية، مريم التي أكدّ من خلال انتظاره لها وتحقيقها بلا اسم حقيقيّ ولا مكان ممكن  خشيته من الاتكاء على واقع مؤكد، فكل النساء التي توفرن له خلال السرد لم تسحبنه من القلب بل من الجسد، وهذا إن دلّ على شيء فهو يدل على تعلّقه بذلك الاعتياد على صعوبة أو استحالة الحصول أو الوصول إلى الأمكنة المشتهاة؛ فلسطين وامرأة تشبه فلسطين..

وأخيراً وبين هذه الفقرات تمكن بسام جميل من قول الكثير مما يريد أن يقول، ولم ينس بالسياق أن يدرج شكل ونوع العلاقة بين وليد ووالديه وأصدقائه وأثر هذه العلاقة على شخصيته وأثر شخصيته على هذه العلاقة، وذهب جميل إلى كل التفاصيل الممكنة لينجز عملاً متكاملاً قدر الامكان ويقدمه لقراء لن تشفع له أمامهم بيئته المحدودة والذاكرة الجماعية للمكان حين تقييم الرواية ، وتمكن من إبرام عقد مع القاريء حول أحداث أو حوادث يريد للقاريء أن يراها على أنها تخيلية عن طريق زج الراوي وتوظيفه لهذا الأمر وأحداث يريد له أن يراها حقيقية عن طريق العنوان الصريح للرواية ،لكنه لم يتمكن من تحقيق مكاناً آمناً لنفسه بين الواقعين فهو نهاية الأمر ليس مؤلفاً لهذه الرواية  فحسب بل هو كاتبها وراويها وبطلها رغم كل محاولاته لأن يكون ذئب الرواية حسب مدرسة امبرتو ايكو التي تطرح هذا السؤال ؛ من هو الذئب في هذه الرواية  : المؤلف الراوي ام القاريء لنجد أنهم كلّهم حاولوا ذلك ولم يخرج منهم الا ذئب وحيد وهو الراوي، الذي لم يكن من داع لوجوده أصلاً.

“سيرتي المتخيلة” رواية للكاتب الفلسطيني بسام جميل وقد صدرت عن دار فضاءات للتوزيع والنشر عام 2014

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى