الليل زنجية لا تنام

الجسرة الثقافية الالكترونية – الرأي
حيدر محمود شاعرٌ يستفزه الجمال، وربّما استعاد قصائد في سياق مناسبة، أو رغبةً من جمهور، وهو، حتى في أحاديثه وإخوانياته، كثيراً ما يعطي حكماً نقدياً أو يلقى بظلاله أو يضع من يجالسه موضع التأويل.
وهو شديد الحساسيّة، يمرر رسائله ورمزياته بمنتهى اللطف والتهذيب ومماشاة المتذوق أو الناقد أو الشاعر، أو الذي يسأل عن الشعر.
كلّ ذلك كان وأكثر في أمسية العين وزير الثقافة الأسبق (الشاعر السفير) حيدر محمود الذي استضافه فيها صالون الدكتور عبدالفتاح البستاني الثقافي، بحضور سفيرة تونس لدى الأردن عفيفة الملاح، فكان من الطبيعي أن تكون تونس محور الشعر والحديث واستذكار كلّ هاتيك الأيام.
قصائد ذات سفارة، أو تحمل غربةً أو حنيناً أو تأملاً أو معنىً سياسيّاً؛ فهي حياة حيدر محمود الضّاجة بالنظر والصمت، بل البوح، وهي حمّالةُ أوجه يحسبها الهاوي تقف عند الغرض الظاهريّ قيد الاشتغال.
ليس من مهمة الشاعر أن يلبي الأذواق، ولكنّه إحساسه العالي، ومزاجه المتعالي، وقد لا يكتب في مناسبة أو يستثيره العاديّ من الأحداث، ففي الأمسية الرمضانيّة الثقافية السنوية التي يحسن فيها الطبيب المثقف الرحّالة الأديب البستاني انتخاب ضيوفه وحضورهم كان لحيدر محمود ما يقرأه في تونس من (قصائد لا يمحوها الماء).
هذه القصائد شدّت انتباه السفيرة الملاح التي وجدت حيدراً ينفذ إلى قلوب التونسيين بحسن توليفه واستيعابه عاداتهم وألفاظهم وجُملهم وتاريخ بلدهم وأصولها وأطيافها السكانيّة؛ فقد كان سفيراً، وكانت له حكايات عجيبة تحرّك فيها الشاعر ليتوّج الدبلوماسيّ إنسانيّةً يستذكرها كلّ أصحابه هناك.
كيف يحتفظ حيدر محمود بأصدقائه؛ فيجعلهم يألفون شعره؟!.. ذلك كان في طلب وزير المالية الأسبق سليمان الحافظ منه أن يوزّع شعره على أقراص ممغنطة بحنجرته الواثقة الآسرة، ومثل الحافظ كان عددٌ من الضيوف متنوعي الاهتمامات يصغون بحرقة وتفاعل وإعجابٍ بمقدرة غواص اللغة على استخراج ما فيها من كنوز، ومن هؤلاء كان المستشار الثقافي الصيني (ني كو آن) في الأمسية التي استهلّها بتقديم نفسه وسفارته بلسانٍ عربي قوي تعلّمه في جامعات مصر وأظهر به جهوده في التعريف بحضارة الصين بين الأصالة والمعاصرة في جملة الأنشطة والرعايات والاحتفالات.
الرعيل الأوّل دائماً ينشدّون إلى الرواد بما في أشعارهم من سحر وعذوبة وانطوائيّة تحمل معنى الرومانسية وتدعو إلى الشفيف اللطيف في ضديّات الأشياء، ومثّل هؤلاء رئيس نادي الفيحاء الثقافي رئيس اتحاد شركا التأمين عثمان بدير، والوزير الأسبق الاقتصادي بسّام السّاكت؛ فلهذا الرجل آفاق لغوية علميّة عبّر عنها بحسن استماعه لقصائد الشاعر الذي افتح الأمسية بهذه القصيدة:
(من أجل عيونك يا (خضراء)/ سأعلن حبّي للأخضر/ وسأفتح قلبي للنعناع وللمشموم وللزعتر/ سأسمّي باسمك كلّ بهاء/ وأسمّي باسمك كلّ صفاء/ وسأكتب عنكِ بماء الورد قصائد لا يمحوها الماء).
في هذه القصيدة أضاف الشاعر إلى حضوره معنى (المشموم)، الذي هو الياسمين يغري به الشباب النساء؛ إذ يضعونه على أطراف آذانهم، مثلما هو ماء الورد في أهميّته عند التوانسة، لنكمل مع حيدر القصيدة، ونتعرف على ابن خلدون والأزهر في تونس التي قال عنها إنّها مؤنث يونس، أو يؤنس، ومما قال: (من (تائكِ) يبتدئ (التاريخ)/ ومنها تبتدئ الدنيا/ يا أوّل شمسٍ قد سطعت/ وانتشرت في كلّ الدّنيا/ وستبقى شمسك ساطعةً يا تونس/ في كلّ الأزمان/ شمساً للعلم وللعرفان وللحريّة والإيمان/ ورسائل حبٍّ يحملها إنسانكِ/ لأخيه الإنسان).
حكايات وأشجان للشاعر السفير في تونس، وقصائد قالها سابقةً لـ(الربيع العربي)، ومهمٌّ أن يشحذ الشاعر ذاكرته ويشحنها بما يتاح هناك من مواطن الحضارة والجمال، ويتحدث لحاضريه بإصراره على أن يسمح لمارد الشعر الذي في داخله أن يتنفّس: (..؛هذه القصيدة فتحت لي أبواب البيوت التونسيّة عندما كنت قدّمت أوراق اعتمادي للرئيس بن علي؛ فقد سألني إن كنتُ أرغب في شيءٍ خارج إطار الدبلوماسيّة، فقلتُ له: نعم! عندي رغبة في أن أضع إكليلاً من الورد على ضريح أبي القاسم الشابي؛ فلديّ أوراق اعتمادٍ أخرى، غير هذه التي قدّمتها، أوراق اعتمادي كشاعرٍ عربي من المشرق!). يقول حيدر محمود إنّ بن علي هيّأ له موكباً رسمياً للذهاب إلى (توزر)، وأنّه وجد إكليلاً بانتظاره، فكانت في الطريق إلى الضريح قصيدة اكتملت نشرتها الصحافة التونسيّة واحتفى بها المحتفون: (التوانسة حسّاسون جداً تجاه تفاصيل غاية في الدقّة؛ فقد أحسّوا بأني واحدٌ منهم؛ كيف لا، وقد كرّمت شاعرهم الكبير صاحب (إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بدّ أن يستجيب القدر).
حين قرأ حيدر محمود القصيدة خلنا أنّه يكتب عن أحدث المستجدات في تونس؛ فقد كان لَمّاحاً متوقداً في استشرافه يحمل المعنى السياسي والأرق الذي ينسجم فيه الخاص مع العام عند الشاعر: (لتوزر عند اشتعال القصيدة/ طقس العروس التي ترفض الكحل/ إلا إذا كان/ من أضلع الشعراء/ وترفض أن تتحنّي/ بغير دم الشهداء/ فيا أيّها الذاهبون إليها/ على نسمات القوافي/ احملوا من جميع المنافي/ السلام/ وقولوا لها وهي تدخل/ مرحلة الطلق/ بورك ما تلدين لنا/ قمراً كان/ سوف نسمّيه توزر/ أم حجراً/ سنسمّيه توزر/ لكنْ، لِدِي الآن/ قبل انطفاء القصيدة/ فالنمل حول نخيلك/ أكثر مما تظنين/ والرمل أغدر مما تظنين/ والليل زنجيّةٌ لا تنام!).في رمزيّة خلقها حيدر محمود في تونس اسمها (اسبرانسا)، وتحمل معنى الأمل في اللغة الإسبانيّة، كنّا مع حكاية الشاعر عاشق الأندلس وحضارته العربية التي تخلّى عنها أهلها وشكّلت أعظم خسارة في التاريخ لديه، وهو تخرج عليه حوريّة بحر، أو هكذا خُيّل إليه، جميلة ممشوقة، قدّم لها المساعدة، ودعاها إلى فنجان قهوة، فذهبت ولم تعد، فيما ظلّ الشاعر يحيا بالخيال، لأنّ الحقيقة عنده عادةً ما تفسد الصورة أو تذهب بما يعيشه من شاعريّة: (اسبرانسا/ نخلةٌ أندلسيّة/أطلعت في غابة القلب نخيلاً وحقولاً وبساتين نديّة/ وإضاءاتٍ في الشرايين التي تسكنها الغيمة شمساً/اسبرانسا/ يسلم السعف الذي غطّى من الثلج عظامي/ وأعاد الجمر والشعر وأسراب الحمام/مرةً أخرى إلى العش الذي كاد مع الأيام يُنسى/سبرانسا….).
وبعد أن انتهى من تونس، استعاد حيدر محمود غربته، متكئاً على (عبدون) الذي لم يعرفه، فلم يعرفه، وفي هذه القصيدة شكا حزنه من تغيّر الوجوه وضياع الملامح وغياب الروح، وتلك القصيدة الأشبه بالحكاية أو القصة بما يتخللها من حوار بينه وبين عبدون ومستجدّاتها وقهاويها وملاهيها و(دكاكينها)، حملت رمزية الشاعر وإنكاره ومحاولته تحسس الوجوه التي لم تعد هي الوجوه: (لم يعرفني عبدون/ وأنا لم أعرفه/كلانا غيّره الزمن كثيراً/شبتُ وزاد شباباً/ وخوت روحي المكتظة بي/ وامتلأ مقاهي وملاهي ودكاكين/ جئتُ أفتش عنّي في ما كان يُسمّى القرية).
هذا المحمول النفسي لفترة عاشها هذا الشاعر (المتنبي) فتح تأويلات الحضور، في مقاطع بعينها قرأها حيدر: (صحتُ بأعلى صوتي:/ أعطينا الضيف السيف/ فأخذ ربيع العمر/ وأخذ الصيف/لم يبق لنا إلا أن نركب قافية النون/ فبجاه التين عليك/ وجاه الزيتون/ وبجاه الناس التعبانين/ المرميين على هامش هذا الزمن الملعون/ أخرجهم منّي يا ربي/ لأدخل فيّ ولا تتركني فيما بقي من العمر أفتّش عني كالمجنون/ بعد ثلاثة أيامٍ/حاولت زيارة موناكو/فوجدت اسمي في قائمة الممنوعين/إنا لله وإنا…/أكمل يا سيد عبدون!).
وفي استجابته لروحانيات رمضان قرأ حيدر محمود من صوفياته (الحب يبدأ من أول السطر)، وفيها كان صوفياً شديد الوله، يبحث عن فرح، محمّلاً هذه القصيدة ذاته وما عانته من قبل.
(تباريح) قصيدة لحيدر محمود كان كتب عنها الناقد الراحل الدكتور إحسان عباس دراسةً مهمة، بوصفها قصيدة مختلفة، ابتدأها حيدر بقوله: (الحمد لك/ والشكر لك/ يا ربّ من ساد/ ومن قاد/ ومن ملك/أعطيت أم منعت/ لا حبيب إلا أنت).
وإذ ظلّ حيدر محمود يعزف على هذا الوتر، كنّا معه نردد: (ما دمعةٌ من عين مدنفٍ/ همت/ أو آهةٌ في الصدر/ همهمت/ باسمك أو ترنيمة باسمك هوّمت/ أو برعمٌ برعمه نداك/ أو بلبلٌ هيّجه بهاك/ فالأيك كلّه صلاةٌ تقتفي صلاة/ والآه خلف الآه/ وانت يا ألله/ في رفّة النسمة/ في دمدمة الإعصار/ وفي قرار الموج في تلاطم التيار/ وأنت في المكان والمكان أنت/ وأنت في الزمان والزمان أنت/ وأنت في الشيء وأنت الشيء مثله/ وضدّه وقبله وبعده/ ولا شبيه لك/ والحمد والتسبيح لك/ في الفوز أو في الخسر لا قريب إلا أنت/ وأنت سيّدي فما أسجد أو أركع إلا لك/ وأنت مولايَ وهذا القلب إن لم ترحم اشتياقه هلك!).
هذه إطلالة قام فيها حيدر محمود بدوره شاعراً ومثقفاً ومتصوفاً وصاحب حكايات ورموز بإزاء ما عاناه من طلاسم في حياةٍ مليئة بالإبداع وبواعث هذا الإبداع.
السفيرة الملاح تحدثت بدورها عن حبها للأردن في أمانه واستقراره وإبداعات أبنائه وكونه واحة للعطاء، مؤكدةً عمق الأواصر بين الأردن وتونس في المجالات الثقافية والتعاونية، مهتمةً بالنشاطات الثقافية التي تؤكد مثل هذه المشتركات، كما عرّفت بكثير من مجالات الإبداع في تونس على أكثر من صعيد.
وجميلٌ أن تجد في الأمسية طبيباً موسوعياً في حضوره الأنشطة القافية ورحلاته إلى دول كثيرة يؤرشف لها ويحتفظ لها بالكثير من الصور، وهو ما فعله الدكتور البستاني، الذي عاد بنا مقدّماً حيدر محمود إلى فصاحة العرب وبلاغتهم في الجاهلية وبعد الإسلام، ذاكراً سوق عكاظ والمعلقات، متعجباً: الإيطاليون هذه الأيام لن يفهموا لغة دانتي في الكوميديا الإلهية، ومعظم الإنجليز لن يفهموا لغة شكسبير في (هاملت) هذه الأيام بسهولة، لكنّ العرب يفهمون معلقة عمرو بن كلثوم وعنترة بن شداد بعد ألف وثمانمئة سنة، والسبب هو لغة القرآن بما فيها من إعجاز.
وهي كلمة ذات محاور قرأ فيها البستاني قصيدة نزار قباني التي ألقاها في مهرجان قرطاج، وقال فيها: (يا تونس الخضراء جئتك عاشقاً/ وعلى جبيني وردةٌ وكتابُ/ إني الدمشقيّ الذي احترف الهوى/ فاخضوضرت لغنائه الأعشاب).كما قرأ البستاني قصيدة حيدر محمود الذي ضمنها ديوانه (عمان تبدأ بالعين) وفيها قال: (لغير عمان هذا القلب ما خفقا/ وغير فرسانها الشجعان ما عشقا/ ولا أحبت عيوني مثل طلّتهم/ على الروابي رماحاً تنشر العبقا).
اشتملت الأمسية على تعريف الدكتور البستاني باستضافة صالونه في رمضان الفائت الدكتور صلاح جرار شاعراً في حديث عن الأندلس، واستضافة رمضان الرواشدة في رمضان الذي قبله روائياً في (النهر لن يفصلني عنك)، ومن قبل الروائية ليلى الأطرش، وقال البستاني إنّه مهتم بتأكيد حضور المبدعين الأردنيين والاحتفاء بمنجزاتهم وما قدموه. كما كانت الأمسية تخللتها دندنات على العود للفنان عيسى مضاعين، وتقديم الكاتب عمر العرموطي لكتابه (أبو الكهرباء في الأردن) الذي احتفى فيه ببدير وإسهاماته في هذا المجال.
حضرت الأمسية التشكيلية الدكتورة شن كول حسيب قادر، والدكتور محمد سعيد حمدان، والقس سامر عازر، وعبدالقادر حداد، والقاص الدكتور هشام البستاني، ورئيس جمعية الصداقة الصينية الأردنية الدكتور فايز سحيمات، ود.غيداء أبو رمان، والمهندس تحسين البعلبكي، والدكتور سائد البرغوثي، ورجل الأعمال علي عابورة، والدكتور موفق خزنة كاتبه، ود.مروان سليمان الموسى، ود.خالد خزنة كاتبه، وعمر زعيتر، وزيّان زبانة، ومنيرة فرج، وآخرون.