«الماضي دائماً أرض مختلقة» … تحوّلات القاهرة

ياسر سلطان

يمثل العرض المقام حالياً في القاهرة تحت عنوان «الماضي دائماً أرض مختلقة» حدثاً استثنائياً بين العروض التي تستضيفها مؤسسة «تاون هاوس» للفنون المعاصرة. وهو يحتل غالبية المساحة المخصصة للعروض الفنية، ويضم مجموعة ضخمة من مقتنيات أحد هواة جمع الأشياء القديمة.
وضعت المعروضات من دون ترتيب أو سياق زمني أو تصنيف لمحتواها. وهكذا يثير العرض من دون قصد تساؤلات حول ماهية العمل الفني وطبيعته كمثير بصري في المقام الأول، وحامل علامات استفهام أو قضايا مشتركة بين صاحب العمل والمتلقي. ففي حين لا يدعي صاحب المقتنيات أمجد نجيب أنه ينشئ عملاً فنياً بالمعنى المباشر، لا يمكن النظر إليه في الوقت نفسه كمجرد استعراض لمجموعة من المقتنيات الشخصية.
فالعرض يحمل إيحاءاته الخاصة مؤكداً في بعض جوانبه تلك المسافة التي تفصل بين ما هو شخصي وما هو عام. هو ولوج في قلب تجربة حياتية تتسم بالخصوصية. تجربة تحمل أبعادها البصرية الدالة والمرتبطة بسياق الحياة في مدينة مثل القاهرة. نحن هنا في مواجهة مباشرة مع تاريخ طويل من التفاصيل، واشتباك مع تجربة خاصة تحمل كثيراً من نقاط التواصل مع سكان هذه المدينة والعابرين بها.
أمجد نجيب الذي يعرّف عنه البيان المرافق للعرض بأنه «جامع للأعمال الفنية والأشياء العابرة وغيرها من رفات ماضي مصر المعاصر»، يجد صعوبة في تصنيف نفسه كمقتنٍ للأعمال الفنية أو جامع تحف. ويمكنك تلمس هذه الحيرة حين تتطلع إلى محتوى مجموعته الضخمة من المقتنيات التي بدأ جمعها منذ ثمانينات القرن الماضي. فإلى جانب الأعمال الفنية التي يقتنيها لفنانين مصريين معروفين، ثمة رسوم ولوحات أقل قيمة لفنانين أو رسامين مجهولين.
وهناك تماثيل من الحجر والبرونز والخشب عرضت من دون عناية إلى جوار مقتنيات أخرى بعيدة الصلة كعلب سجائر، وولّاعات، وتذاكر ترامواي قديمة، وصور فوتوغرافية بالأبيض والأسود، وزجاجات عطر، وأوراق ودفاتر تجارية.
هناك أيضاً أدوات معلومة وأخرى مجهولة الاستخدام، بعضها متدنّي القيمة وبعضها الآخر مصنوع بعناية من المعدن أو الجلود الطبيعية أو الأخشاب الثمينة. وفي أحد أركان مساحة العرض تمثال كان يمثل جزءاً من واجهة بناية قديمة في وسط القاهرة، هُدمت عن قصد كما يقول أمجد نجيب.
وفي ركن آخر تستقر آلة بيانو معطَّلة، وإلى جوارها عدد من الـ «مانيكانات» القديمة كانت تمثل ربما جزءاً من ورشة لتفصيل الملابس أو بيتاً للأزياء. يحكي الرجل بشغف كيف عثر على عشرات الفساتين القديمة التي تعود إلى أحد مصممي الأزياء العالميين داخل بيت هجره أصحابه، أو كيفية حصوله على ذلك الأرشيف من الصور الفوتوغرافية، وكيف تحوّل بحثه عن تلك الأشياء إلى شغف حقيقي بتقفي أثر السنوات.
كل مفردة من هذه المقتنيات تحمل تاريخها الخاص وذكريات أصحابها. كلها أشياء جمعت على مدى سنوات من بين المقتنيات الشخصية لأفراد وعائلات، من مصر وغيرها من الدول، تشاركوا معاً ذات يوم فضاء هذه المدينة التي اتسع صدرها للثقافات المتعددة. جزء كبير من هذه المقتنيات له علاقة بالتغيرات الثقافية والاجتماعية للمجتمع المصري التي انعكست على النمط الاستهلاكي لسكان المدينة، أو بالأحرى على الطبقة الوسطى التي تآكلت مع السنوات.
قد يثير العرض في داخلنا تساؤلاً ممزوجاً بالدهشة عن الدافع الذي يدعو رجلاً مثل أمجد نجيب إلى جمع هذا العدد الكبير على سبيل المثل من الرسائل الخاصة لأشخاص لا يعرفهم، أو اهتمامه إلى حد الولع بجمع هذا الكم من الأقلام وتذاكر الترامواي والصور وإعلانات الصحف وعلب العلكة (اللبان)، والزجاجات والهواتف، كأنه يجمع شتات الذاكرة البصرية لسكان القاهرة قبل أن تضيع، أو أنه يقتفي أثر هذه العلامات المميزة لأسلوب الحياة في قاهرة الأيام الخوالي.
«الماضي دائماً أرض مختلقة»، هو عنوان لافت لعرض يتتبع سيرة القاهرة المعاصرة بحاراتها وبناياتها وتحولاتها. ولعل وجود أمجد نجيب في قلب القاهرة أكسبه ميزة المراقب لهذه التحولات. هو جامع للعناصر والإشارات الدالة عليها، وسواء كان يقوم بذلك عن قصد أو من دون قصد، فقد صنع أرشيفه الشخصي لكل ما يتصل بأسلوب الحياة والتفاصيل اليومية لسكان المدينة، وهو يشاركنا الآن هذا الأرشيف، ويترك لنا حرية التطلع إليه وتلمسه عن قرب.

(الحياة)

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى