المثقف المغربي والمواجهة الدائمة

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد الرحيم الخصار
المصدر: السفير
ربما قدر الثقافة المغربية أنها خُلقت لتواجه شيئاً ما، لتكون في الضفة المقابلة لكل ما يتعارض مع القيم الإنسانية، ومع قيم الجَمال والخير، إذ ظل الخط الأنسب للمثقف هو خط الممانعة. يكاد هذا التقييم برغم طابعه الكلاسيكي يسم تاريخ الأدب المغربي في معظم مراحله، وإن كانت هذه السمة قد خفّت في عصرنا الجديد، لتتخفّف معها الكتابة من رسائلها التربوية والتنويرية بشكلها المباشر، ولتحافظ، على الأقل، على مهمة واحدة لا يمكن التخلص منها مهما ادعى المثقفون الحياد والعزلة والهروب من القضايا الجماعية الكبرى. هذه المهمة تتلخص في بقاء الكتابة، برغم كل التحولات، عنصراً شاهداً على العصر بكل دقائقه وتناقضاته.
في عهد الاستعمار الفرنسي للمغرب كانت للكتابة في مجمل أشكالها وظيفة أساسية، هي المقاومة، أي مواجهة الاحتلال. ويمكن هنا استعادة ما أنجزه المسرحيون منذ منتصف الثلاثينيات، حيث نشر عبد الخالق الطريس، أحد رموز الحركة الوطنية، أول نص درامي سنة 1934، وكان عنوانه «انتصار الحق»، وكان المضمون غالباً
بشكل كبير على الجانب الفني والجمالي، فالخطاب مباشر لأنه موجه في الغالب إلى «الشعب» الذي يستحثه المثقف على النهوض ضد المستعمر، هذه الخطابات المباشرة ستظل حاضرة بشكل أو بآخر حتى في فترة لاحقة مع ظهور مسرح الطيب الصديقي والطيب لعلج، وهما من رواد المسرح المغربي. إن الروح الوطنية كانت تسبق في الغالب روح المسرح، ومفهوم «الرسالة» كان قادراً لوحده على إخفاء كل المفاهيم الأخرى المتعلقة بالعمل الفني، بل بأب الفنون.
وسيبقى تيار «الوطنية» هو المهيمن في غالبية الأعمال الإبداعية، ليس المسرحية فحسب، بل القصصية والشعرية والدرامية، كـأن وظيفة المثقف في تلك الفترة كانت بالضرورة هي مقاومة الاستعمار، ليس بالكلمات فحسب، بل أيضاً بالانخراط في حركة وطنية قائمة على أرض الواقع، كان لها امتدادها عبر أطراف البلاد.
تفكير «أبيض»
بعد الاستقلال بعقد واحد سيظهر جيل جديد من الكتاب لم يجد أمامه محتلا ليواجهه، وإنما تحولت لديه فكرة المواجهة صوب نظام سياسي بدا له أنه يمارس نوعاً من الاستبداد، ويقف عائقاً في الطريق نحو الحرية والانعتاق من كل أشكال الحيف الإنساني. فصار الهمّ الإيديولجي أحد المكونات الأساسية للكتابة، بل موجهاً رئيسياً لها. وبسبب مواقفهم سيقضي عدد من المثقفين سنوات من الاعتقال السياسي، كضريبة لخيار المواجهة المباشرة، حيث سيقضي الروائي عبد القادر الشاوي خمس عشرة سنة في السجن، وسيمكث الشاعر عبد اللطيف اللعبي ثماني سنوات في أحد أسوأ المعتقلات السياسية، وسيقضي الشاعر صلاح الوديع عشر سنوات من السجن، كانت تلك العقوبات القاسية لهؤلاء ولرفاقهم ضريبة على مواقفهم السياسية والفكرية آنذاك.
اليوم قد لا يوجد المثقف المغربي في مواجهة مباشرة مع السلطة، فالمفاهيم على ما يبدو قد تغيرت، بدءاً من مفهوم «المثقف» و «وظيفته» وصولا إلى مفهوم «السلطة» نفسها. ثم إن «الخصم» لم يعد واضحاً، ولعله «تغير»، فالذين تم اعتقالهم من طرف النظام السابق جلسوا على الطاولة نفسها مع نظام هو في الحقيقة امتداد لسابقه، من أجل «المصالحة والإنصاف» و «التعويض» و «جبر الضرر»، حتى أن عدداً منهم شغل مناصب سياسية و «شرفية» في حكومات هذا النظام.
ولعل الأحداث الأخيرة التي وقعت في العالم العربي تحت مسمى «الربيع» جعلت المثقف من جهة وممثل السلطة من جهة أخرى يعيدان النظر سواء في بعضهما البعض أو في تلك النقط التي تجمعهما. إعادة النظر هذه لم تكن مبنية بالضرورة على التقدير والاعتراف، بقدر ما كانت مبنية على تفكير «أبيض» من أجل مواجهة عدو مشترك، هو اللاّاستقرار أو الفوضى والخراب الذي يمكن أن يعقب حياة سياسية واجتماعية موسومة، برغم كل شيء، بنوع من الهدوء والتماهي مع اللحظة.
الخطر الأسود
في لحظتنا الراهنة يكتفي المثقف المغربي، الذي يوجد في خط الممانعة، بلزوم الصمت وعدم الركض في مواكب السلطة، فالصمت على كل حال هو أفضل بكثير من السير في جوقة المهرجين.
غير أن ما يواجهه جل المثقفين المغاربة اليوم، وهم في معظمهم ينتمون إلى توجهات طلائعية تحررية، هو الخطر الأسود، أي التوجهات الفكرية التي تريد العودة إلى عصر الكهوف والمغارات والخوف من أنوار الحداثة. تلك التوجهات التي تبدو دخيلة على البلاد، والتي تبحث للعنف بشكل مستمر عن مبررات دينية ولاهوتية، تمنحه مشروعيةَ أن يكون حدثاً عادياً ومقبولاً.
ما تخشاه غالبية المثقفين اليوم من كتّاب ومفكرين وفنانين وأهل سينما ومسرح هو أن تتسرب إلى الناس تلك الأفكار التي تشوش معتقداتهم والقيم التي نشأوا عليها في مغرب يشهد تاريخه أنه قام منذ قرون على التسامح الفكري والعرقي والديني.
في هذا المجال الشاسع تظهر فعالية المثقف المغربي اليوم، فقد تحول دوره من مرشد ورجل تربية وكائن يحمل مشعلاً ما، أو يتوهم أنه يحمل ذلك المشعل، إلى كائن آخر يشير بيده وبكلماته إلى مواطن الجَمال ويحتفي بها، ويقف في مواجهة كل من يريد تخريبها.