المخرج المكسيكي اليخاندرو غونزاليس ايناريتو.. عين سينمائية تعاين ثقافات إنسانية متعددة

الجسرة الثقافية الالكترونية
ناجح حسن*
المصدر / الراي الاردنية
– تتبوأ السينما المكسيكية مكانة لائقة من بين تلك السينمات العالمية التي وضعت بصمتها الخاصة على جماليات الفن السابع في اكثر من حقبة زمنية، حيث برزت كواحدة من تلك السينمات العالمية الشهيرة الآتية من أميركا اللاتينية ذات الموروث الثقافي المتنوع بتيّاراتها الفريدة المشبعة بأساليب السرد الفتان.
أثرت السينما المكسيكية الجديدة ممثلة بقاماتها البديعة الشاشة البيضاء بالعديد من الأسماء اللامعة من المخرجين المعاصرين من بينهم: أرتورو ريبستيان صاحب الاقتباس المدهش لرواية الاديب المصري الحائز على جائزة نوبل نجيب محفوظ )بداية ونهاية) وهناك المخرج ألفونسو أراو، وماريا نافارو وألفونسو كوران، وصولا الى كارلوس كارييرا، وجيليرمو ديل تورو، واليخاندرو غونزاليس ايناريتو، والأخير ذاع صيته كمخرج شاب مجدد في السينما المعاصرة قادته مع نفر من اقرانه صوب هوليوود واوروبا محملين برؤى مبتكرة في طريقة ودلالات صنعة الفيلم السينمائي وخطابه الجمالي والفكري.
احاسيس ومشاعر
تنأى اشتغالات المخرج ايناريتو المولود بالمكسيك العام 1963 عن تتبع سردية الفيلم السائد في الأفلام الأميركية فهو لا يختار موضوعا واحدا بقدر ما يركز على تتبع احاسيس ومشاعر انسانية آتية من تلافيف مجموعة من الاحداث والقصص والحكايات المنفصلة والتي تبدو مألوفة و شائعة، قبل أن يصوغ منها رونقا جذابا من المتعة السمعية والبصرية في لغة درامية تشي بالكثير من الافكار البليغة.
براعة افلام ايناريتو انها تشتبك بسلاسة مع موضوعات مليئة بالهواجس والهموم والاحلام دون أن تكون منفصلة عن اسئلة الحياة اليومية في الفقر والمرض والموت بغية التواصل، وكل ذلك يسري دون افتعال أو استعراض بل في اتكاء على اساليب قوامه بساطة الأداء وعفويته المتناغمة مع مفردات وعناصر من اللغة السينمائية التي تنهض على دلالات وإشارات تتأسس على الموسيقى الدقيقة الاختيار وهي تلامس الوانا من لحظات البؤس والحزن والفشل وخيبات الشقاء الانساني.
قدم ايناريتو ابان بداياته الاولى في العمل السينمائي اكثر من فيلم قصير منها عمليه اللافتين: ( وراء المال) و(الجرس) وهما فيلمان بسيطان انجزهما في منتصف التسعينات من القرن الفائت بانت فيهما جماليات اسلوبية ذات نزعة إنسانية واعدة، الى ان جاءت فرصة التقاءه العام 1997 مع غيريمو ارياجا احد اشهر كتاب السيناريو في الفيلم المكسيكي المعاصر، ليشكل معه ثنائيا في التقاط موضوعات من تفاصيل الحياة العامة ليحيكا معا نصوصا للسينما تطوف في احداث ذاتية واجتماعية وسياسية جسام تنأى فيها ارجاء المعمورة.
في فيلم (شطط الحب) الذي حققه العام 2000 يجري التعامل مع ثلاث قصص منفصلة تلتقي جميعاً في حادث سيارة، تحتوي على أنماط من البشر، هناك شاب وزوج وقاتل بصحبةكلب، وممثلة اعلانات يتحركون في امكنة مختلفة قبل ان يجمعهم الفيلم معا على نحو غير منتظر، الامر الذي شكل علامة فارقة في مستقبل المخرج السينمائي، الذي قاده الى انجاز فيلم طويل بالشراكة مع مجموعة من مخرجي العالم عن اعتداءات الحادي عشر من ايلول 2001 على برجين في مدينة نيويورك، وحده اليخاندرو الذي ظل بجزئه القصير من العمل الاكثر التصاقاً بالحدث باسطا اياه بايحاءات رمزية بالغة التأثير تتعالى من جنباته اصوات الاستغاثة في الزفير الاخير بمصاحبة ضجيج هادر وكائنات بشرية تتهاوى من البرجين المشتعلين قبيل لحظات من انهيارهما.
عقب هذه المشاركة، جاء بفيلمه الروائي الطويل الثاني المعنون (21 غراما) العام 2003، ثم اتبعه بفيلم (بابل) 2006 وهو ما نسج منها مجتمعة ثلاثية سينمائية آسرة، جالت في المهرجانات والصالات العالمية معرّفة بنباهة صانعها وفطنته في القبض على اهم مشكلات انسان هذا العصر، عبر حكايات تبدو في الظاهر هامشية الا انها عميقة التأثير بليغة الدلالات.
احداث جسيمة
دارت احداث فيلم )بابل( الذي جرى تصويره في فضاءات لامكنة متعددة القارات، موزعة بالمكسيك واليابان والمغرب، يتحدث ابطاله في أكثر من لغة هي: العربية والاسبانية والانجليزية واليابانية، حيث يتمحور حول حدث بسيط تتفرع عنه احداث جسيمة عندما يستهل مشاهده بحادث عرضي يطلق خلاله فتى مغربي يعبث مع شقيقه لحظة رعيهم الغنم رصاصة من بندقية قديمة على حافلة سياحية كانت تمر بالصدفة امامهما تصاب فيه امرأة اميركية بصحبة زوجها ويقود هذا الحادث إلى سلسلة من التحقيقات والتفاعلات السياسية في ارجاء القارات الثلاث.
يتوارى وراء فيلم (21 جرام) جماليات الاداء المفعم بالصدق الذي يحفر في دواخل عشاق السينما وهو يعاين قضايا الندم والحسرة والحزن والانتقام، جرى تشييده على نحو جريء مزنر بنواحي فلسفية مثيره للجدل والغموض حول حقائق علمية عن وزن الكائن البشري وتساؤلات بليغة عن الروح والشوق الانساني.
في فيلمه التالي (بيتوفول) 2010 يقرر غونزاليس إيناريتو محكاة موضوعات تنحصر في شخصية محورية تتحرك في بلدة ساحلية صغيرة، لكن بامساك دقيق على توجهاته الجمالية التي تنهض على استكشاف طرق سردية جديدة، حول شخص يكتم مشاعره، عرف الرشوة و الاستغلال لكنه لا يريد أن يفقد أمله بالحب في اطلالته الاخيرة على الحياة لكن الواقع يأبى الا ان يقوده في اكثر من اتجاه مختلف، والفيلم في النتيجة هو تجربة عن الصداقة والتعاون والالفة والحميمية والتعاطف بين اعراق البشر في زمن العولمة، حيث تتأكد فيه حرفية ايناريتو بوصفه صاحب خطاب مختلف شكلاً ومضمونا، فهو من الذين يلتقطون أعمالهم من ثنايا وتفاصيل الواقع اليومي المعاش، بمنأى عن القوالب أو الانماط الدارجة.
في فيلمه الاخير (بيرد مان) او الرجل الطائر كما في ترجمته العربية يدلف ايناريتو الى فضاءات السينما باحثا من خلال كواليس عمل مسرحي عن هموم ومتاعب ممثل هوليوودي شهير اصابه السأم جراء مفاهيم السينما الاستهلاكية وهو في لقاءه مع ممثل شاب يطمح الى تقديم فنونه الادائية الراقية من على خشبة مسرح، ويحفل العمل بتلك المواقف المليئة بالدعابة السوداء خلال بروفات المسرحية.
حلول اخراجية
تبدو في هذا العمل المرشح بقوة لجائزة الاوسكار لافضل مخرج، اساليب ادائية ممتعة الى جوار تلك الحلول الاخراجية الفريدة في ايهام المتلقي بان العمل كله أنجز بلقطة وحيدة بالكاميرا المحمولة على طريقة المخرج البريطاني الفريد هيتشكوك.
تعكس افلام ايناريتو مجتمعة الواقع المعاش لنماذج من الأفراد والجماعات قادتهم تحولات العالم المعاصر واشكالياته الى مصائر متباينة، طارحا على نحو جدلي مثير اسئلة الحياة والتمثيل والانعتاق والجنون والموت في خيال رحب مفرط بالتعلق في الانسان واشكاليات حراكه اليومي الشاق، هذا كله كرسّه كواحد من ابرز المخرجين المعاصرين على خريطة الفن السابع.