المساحة الفارغة أو الجزء الفارغ

الجسرة الثقافية الإلكترونية -خاص-
* سعيد قاسم
الفراغ هو الفرصة التي وهبتها الطبيعة لكل منا لنتفكر فيما يمكن أن نعطيه من روحنا أو ربما هو عجزها عن التملك أو انكفائها ، أو هو دعوة مبطنة للإنسان لأخذ دوره في رسم ملامح أخرى ، ملامح متجددة تناسب كل عصر.
هو ليس الجزء المهمش من المشهد و إنما هو ما يمكن اكتشافه دائما بطريقة متجددة و الاحتفاء به بمعان متجددة هكذا عرفه الإنسان منذ الأزل حين أصابه سهم الفناء و انقسم روحه بسيف الإله الفاصل بين الذكر و الأنثى فظل يبحث عن الجزء الفارغ منه لأن لكل روح الفراغ الخاص بها لا يملأ تلك المساحة سوى روح من الجنس الآخر لا يغالبك الشعور ذاك إلا حين تتحسس الأجزاء الفارغة من روحك وكأنها مكعبات مفقودة للوحة غير مكتملة، إنها الأقرب إليك حتى و إن فقدتها إلى الأبد، لا تنظر إلى أجزائك الفارغة ،هي وعود ثكلى جروح تتفتق كلما نظرت إليها..
الفراغ الرسالة
في الزوايا الاجتماعية الأنثوية المعتادة الحالة تتكرر دون شعور بالروتين أو الملل ، امرأة تنظر في الأجزاء الفارغة من الفنجان، تحاول أن تجد فيها تباشير للأمل قد يكون ذلك الفراغ مجسدا بتعاريج توحي إلى طرق أو على صورة حيوان يرمز إلى القادم أو الراحل .
الأرقام هنا أيضا يمكن أن تلقي بنفسها في الفراغ أو تُقحم بعفوية التوقع و المصادفة في جمل الفنجان المبعثرة لتكون علامة للدقة أو ما يشير إلى المصداقية مشحونة بانفعال القرب و البعد أو الاحتمال .
الفراغ المشبع بالإشارة و الإيماء
الأثير الفارغ لوحة الفنان التشكيلي تستفز ريشته لتهزم الألوان أو تجردها من جمادها، الفراغ لون يكتشفه التشكيلي في كل مشهد لهدف مختلف ، لتكون الجزئيات الفارغة منها إيماءات بما لم تقو اللوحة عن التعبير عنها ، استراحة الألوان عنفوان تفاصيلها الفارغة المتماهية مع عفوية النظرة أو ربما لترويضها ، النظرة التي تنتهي في اللوحة لئلا تكون جدارا من الألوان و إنما لتكسر الجدران العازلة بين المختلفات كرغبة الأخرس أو الضرير في التواصل وكسر العزلة.
اللوحة “الأثير” تكون أقرب إلى الجسد حين يرسم عليها الأخرس تعابيره ، الحركية الدائمة لليدين المتناغمة مع الملامح المتقلبة للوجه التي ترسم بدقة على الجسد الفارغ ” الأثير” لتبث فيها الروح لا تكسر الأجزاء الفارغة فقط و إنما تشبعها بما لا يمكن أن تكون بغير ذلك لعلنا نتلمسه من خلال الأخرس وهو يعبر عن تلذذه بشرب الشاي : رسم بيده البسرى صورة كأس الشاي و تناولها بيده اليمنى ، ثم أغمض عينيه للحظات قبل أن تفتحها لذة الطعم مرة أخرى.
الفراغ قصيدة مضمنة بقصائد
الصورة في الشعر هو المكان الذي يتحدى فيه الفراغ كل سلطة، مجردا التجريد من سطوته ، تاركا لانفعال المتلقي فرصة السمو و الاكتمال بالمشهد ، الأجزاء الفارغة من القصيدة هي الأرحام التي تولد بالمعاني في كل قراءة .
ولكن هل ثمة مساحات فارغة في القصيدة ؟
ليس عبثا أن يرى النقاد في المتلقي الجزء الأهم من النص و هل للنص الأدبي معنى بدون المتلقي الذي يضفي عليها ما عجز عنه المبدع من خلال ما يمكن أن نسميه بالمساحات الفارغة فالفراغ نافذة القارئ ليكون جزءا من المعنى ، سرير لالتئام مشاعره مع مشاعر القصيدة ،أجمل القصائد تلك التي يمتد فراغها لتوسع فضاء المتلقي بالمعاني و التجدد ومن هنا كان النص الأدبي مفتوحا على النهايات مفتوحا على فضاء فارغ كلّ يملأها بقصيدته الخاصة به.
الفراغ المؤلم ” السد “
فضاء شاسع من الفراغ قد تجده أمامك ، شساعة تمتد كلما كبر حبك للعب الدور الذي من الممكن أن تجد نفسك مؤهلا له، الحب الفائض عن المسموح بالنسبة للسلطة التي تحصر الوطن بمفاهيمها ومقاساة متنفذيها، وتتحكم في دورك و وتضع القيود أمام شخصيتك و تسدل الستائر عن الأبواب التي تهم بفتحها للعبور إلى هزم الفراغ.
فيض الحب الذي ينضح من قلبك يقابله سد سلطوي مانع، لتزاح من وسع فضائك إلى رقم في فروع الاعتقال، و إن حالفك الحظ فتساق إلى الجدران الأربعة المعلومة .
فضاء التعبير الذي تجده حينها مع أناس أوسع بكثير من فضاء الخارج ولكن فضاء شعورك يتكثف في مساحة ضيقة من الفراغ الفاصل بينك و بين محبيك في الزيارات التي تشبكها الصمت و الأسلاك من الجهتين.
آلهة الألم الجدد يتفننون في تعذيب الكلمة على شفاهك ويمهلون الدمعة وقتا أطول في عينيك حين يضيقون مساحة الفراغ أكثر، الفراغ المفتعل من خلال الشباك الضيق الفاصل بين السجين و الزائر تصلّب الكلمات لتصبح الأصابع المستسلمة للبعد جزءا من أسلاك الشباك حيث العيون تدرك قسوة السد أكثر و تتشابك مع الجسد الفارغ المؤطر بأسلاك الشبّاك والكلمات المسجونة.
* كاتب من سوريا