«المستنقع» رواية الالتباس الإيراني حلماً وواقعاً

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مودي البيطار
المصدر: الحياة
يقف جعفر مدرّس صادقي، خلف الدعابة السوداء والمواربة في التعبير، لكي يحمّل روايته الصغيرة «المستنقع» رسائل وجوديّة واجتماعية قاتمة، من قتل الأب وعبث الحياة الى الفقر وتحايل أهله على بعضهم البعض لتوفير اللقمة. لا يؤدّي التخفّف المقصود من البطانة الاجتماعية والعاطفية الواضحة، الى قصة خفيفة، لاهية، كما قد يبدو عند بدء قراءة الرواية التي تقلّ عن مئة صفحة، وترجمها غسان حمدان الى العربية. تنتقل «المستنقع» الصادرة عن منشورات الجمل، بيروت وبغداد، بمرونة وتكرار بين الواقع والحلم اللذين يصوّرهما الكاتب الإيراني بالقوة نفسها، فيبدو الثاني عالماً حقيقيّاً، مرادفاً، للبطل الذي يتعلّم كيف يرمي نفسه في الحلم ليستيقظ كما لو كان هناك ممرّ للوعي بين العالمين.
يستهلّ صادقي روايته، بحلم يغرق والد الراوي خلاله في نهر زايندة، وينهيه بآخر يغوص فيه الابن أعمق وأعمق في مياه النهر نفسه. حلم سابق في وسط الرواية، يأخذ الاثنين والأستاذ كُلتشين الى المستنقع آخر النهر، لأن «كل حياتنا في هذا المستنقع، إن وجودنا وكل ما نملكه موجود فيه، كل المياه التي دهنّا بها أجسادنا انصبّت فيه» (الصفحة 52). الحياة إذاً لشخصيات الرواية، مستنقع حتمي يستحيل الخروج من ركوده، وربما كان ذلك سبب امتناع البطل المضاد عن المحاولة، وعيشه في عالم خاص منذ الطفولة. يبقى الجميع بلا أسماء باستثناء الأستاذ كُلتشين وحميد وخشايار، ويعيش الراوي خارج الحياة خلافاً للوالد الذي كان أفضل خيّاطي أصفهان، ودخّن وشرب وسهر مع رفاقه، وسبح في النهر كأنه يترك علامته الخاصة في الوجود. يبقى الراوي الرافض التورّط في الحياة على الضفّة قرب ثياب والده، لا يصطاد بل يتفرّج على الصيّادين، ولا يركب في الزورق إلا في الحلم مع والده وكُلتشين. على أن الأب يتوقّف عن المحاولة حين يصبح فائضاً على الحاجة، ويخسر زبائنه عند رواج الملابس الجاهزة. لا يبحث عن مورد رزق بديل في المحل الذي يملكه، وتسبقه الحياة الى أن يموت ميتة سورياليّة في كرسيّه والمقصّ في يده على طاولة الخياطة.
تختلط ذكرى الأب بذكرى كُلتشين بعد وفاة الأول، في استبدال واضح يكتشفه الراوي حين يقول إنه تمنّى موت والده (الصفحة 67) ولم تعد لديه أمنيات بعد ذلك، وإنه لو أنجب لن يكون بين أولاده شبيه بأبيه. يدوّن أحلامه ليعرف نوعها وسبب عجزه عن «الراحة» من ذكرى أبيه التي أذته بشدّة (الصفحة 10). يقصد مدرسته القديمة بحثاً عن كُلتشين، ويعرف في حوار سريع بارع أن الأستاذ الذي تباهى بسباحته الخطرة كان بطل أصفهان في السباحة، لكنه مات غرقاً. حين تعرّف الوالد الى المعلّم، قال إن مهنته لا تليق به، وأضاء المسؤول في المدرسة المفارقة عندما قال إن سبّاحاً ماهراً مثله يجب ألا يغرق في النهر. كأن المعلّم، بطل السباحة الخارق، خالف التوقّعات وأهدر حياته مرتين، أولاً بالتعليم وثانياً بالغرق.
الراوي في الرابعة والعشرين، وبلا اسم ليكون رمزاً للهامشيين، العبثيين، الساخرين مثله. يعيش في غرفة واحدة مع موظفَين، يكتب أحدهما الشعر، ويجمع الثاني الى عمله البحث الجاد، الطويل عن زوجة. عثروا على الغرفة بعد جهد كبير لنفور الملاّكين من العازبين، وفقد الراوي وظيفته في المكتبة وبقي عاماً كاملاً عاطلاً من العمل. يعرف أنه كان خائفاً وهو يحلم أن والده غرق، ويتعرّق فيظن أنه عاد يبلّل نفسه كما فعل طفلاً كلما حلم بالماء. هل يعود قلقه وافتقاره الى الأمان، الى سوء العلاقة بين والديه اللذين تزوجا وهما «عجوزان»، وخوفه من المستقبل نظراً الى فارق السن معهما؟ وهل بحث عن الأب البديل في كُلتشين لأن جسده الرياضي وشجاعته أوحيا بالقوة؟
واجهت الأم خيبتها بالمرارة وسلاطة اللسان، وعوّضت عن مقاطعة أسرتها العريقة بعد زواجها برسم الحدود الطبقية اللائقة بها، هي القادمة من عائلة دُعيت منطقة باسمها. كرهت كل شيء في زوجها، وقد تكون تزوجته لأهمية زبائنه أو لتقدّمها في السن. يتظاهر الزوج بأنه يذهب صباحاً الى الحمام لكي يتجنّب لسانها اللاذع، لأنها تعتبر السباحة في النهر للعراة. كان أكبر منها سنّاً، ومرض وضعف، لكنه ثابر على الذهاب الى المحل. طلب ألا تقام له «خزعبلات» العزاء عند موته، ولم يقم المراسم التقليدية لزوجته عند رحيلها، لنفورها من التمثيل والتظاهر بالحزن عليها. ورث الابن لامبالاته، ولم يخبر مديره أنه يطلب فرصة يومين لرحيل والده، وصُعق هذا، في مشهد مضحك، حين علم سبب امتداد الفرصة عشرة أيام. «أصبح وجه مديري عجيب الشكل حين قلت إن أبي توفّي كأن شيئاً لم يحدث. عندما يتوفّى والد شخص يصبح مهماً بالنسبة الى الآخرين. لو لم يمت أبي لم تكن ابنة عمّتي ستعدّني من البشر».
يحب ابنة عمّته اللامبالية به منذ الطفولة، ولا يشكّ في اهتمامها المفاجئ في الذكرى الأولى لرحيل والده. تعترف بحبها القديم له، وتتظاهر بجهل عاطفتها نحوها، فيصدّقها ويتزوّجها.
يكتشف أنها طبّاخة وخيّاطة ماهرة، ولا تتكلّم كثيراً، لكنه يضجر في اليوم الثاني من الزواج حين يرافقها الى السوق. يحاول أن يبدو سعيداً متفائلاً، ويعرف أنه ليس زوجاً صالحاً، على أنه يعلم أيضاً أنها مراوغة تتظاهر بالطّيبة والضعف، ولا تقول صراحة إنها ترغب في فتح محلّ والده مجدّداً. تحوّله مع شقيقها محلاً للخردة، وتبيع الملابس النسائية التي تخيطها، وتقتصر مساهمته على تسمية الحانوت «نهر زايندة» تكريماً لأبيه، على رغم بعده من النهر. قلّما يقصد المحلّ الذي يذكّره بوالده، ويجول طوال اليوم في شوارع أصفهان التي تشعره ألفتها بالغثيان، ويجرحه تغيّرها وبقاء القديم المتصدّع على حاله في آن. يسكن وزوجته مع ذويها ويمتنع عن مساعدتها فلا تتذمّر، ويستغرب في الوقت الذي يكتشف أنها ليست أجمل النساء وأطيبهن، كما اعتقد قبل الزواج حين أحبّها من بعيد كآلهة، الصفحة 67.
ازدادت أحلامه بعد الزواج، فقابلت الأحلام النشيطة ليلاً حياة خاملة نهاراً في هروب وانسحاب شبه كامل من واقعه. يركب الزورق ويسبح في الحلم، وإذ يغطس يقع على الأرض ويصدم رأسه بالطاولة. يروّض أحلامه لتتفاعل مع الحقيقة، ويرمي نفسه في الحلم كلما شاء الاستيقاظ (الصفحة 55). ينعطف واقعه فجأة حين يطلب زوج عمّته منه تطليق ابنته لإهمالها، ويشتري المحل منه بأزهد الأسعار. يكشف والده الذي يلعب دور الحكيم في الحلم، أن أسرة عمّته تآمرت منذ البداية للحصول على المحل. حين تسنح له فرصة الانخراط في الحياة يرفضها، ويتابع هدرها كما فعل والده وكُلتشين قبله. يرى عرض نشر قصّه عبثاً، ويقرّر أن كل ما أراده انحصر في «إفراغ رأسه من كل فكر وتصوّر، وكل ما لا يمكن رؤيته وسماعه وشمّه ولمسه» (الصفحة 74).
يبرع جعفر مدرّس صادقي في كتابة قصة عميقة، تبدو أول الأمر كأنها تنتمي الى أدب العاديّات الذي لا يضيف شيئاً، ويضيء نصّه بالمرح والحوارات الموجزة.