المفكر والمؤرخ الذي عاش لأجل مجتمع حر وإسلام معاصر

محمد ناصر المولهي
توفي الاثنين 1 مايو المفكر والمؤرخ الإسلامي التونسي محمد الطالبي عن عمر ناهز 96 عاما. والطالبي ليس كغيره من المفكرين، ربما لم يؤسس لنظرية خاصة في عوالم الفكر أو النقد، لكنه كان الأشجع بين السابقين واللاحقين، شجاعة خولت له أن يخوض في أكثر الأمور تعقيدا بقلب صلب وذهن حداثي منفتح يسمي الأشياء بمسياتها، ويقدم الفكرة واضحة بلا لبس.
القرآني الشجاع
كان يقول عن نفسه إنه “قرآني” فلا يلوي عنق اللغة لأجل فكرته ولا يأتي بما هو خارج النص ليسقطه على نص مبحثه، بل يفكك الأفكار من داخل النص القرآني بوضوح ودقة بالغين.
يعرف البعض للطالبي مواقفه من تحريم الخمر التي يعتبرها لا تدخل في باب المحرمات، شأنها شأن البغاء، حيث لا نصَّ صريحٌ عن ذلك، يعرف له أيضا موقفه من الشريعة التي يقر بوجود الكثير من الخلل فيها، لكنه لم يقل يوما إنه يقدم فتاوى دينية بل هو يطرح أفكاره الخاصة، مستدلا فيها بالنص القرآني. لكن لسائل أن يسأل، هل توقف الطالبي عند هذه الأفكار الجزئية؟ إن مسيرة محمد الطالبي تنقسم إلى محورين، أولا دوره العلمي في الجامعة التونسية، حيث كان أول عميد لكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتونس سنة 1955، فيها درّس التاريخ الإسلامي وعلى يديه تخرج طلبة كثيرون مستشفين منه منهاج الفكر المتحرر والوسطي. ثم دوره الفكري من خلال كتاباته سواء منها المنشورة في الكتب أو المقالات المتفرقة ونخص هنا بالذكر مقالاته في مجلة “جون أفريك”.
كتب الطالبي أغلب آرائه وبحوثه باللغة الفرنسية، حيث لم يتوقف عند حدود اللغة الواحدة، وقدم للعالم ككل نظرته المنفتحة للماضي والحاضر الإسلاميين، ببعد كوني امتاز به فكره على مدى مسيرته، مسيرة خطها لأجل الوسطية والحرية وذاك ما يبدو جليا حتى من خلال عناوين مؤلفاته مثل “أمة الوسط” و”مرافعة من أجل إسلام معاصر” و”كونية القرآن” و”ديني الحرية” وغيرها. مؤلفات كثيرة خوّلته لينال العديد من الأوسمة والجوائز سواء في تونس أو فرنسا وإسبانيا وإيطاليا والسويد.
نعود إلى الأفكار الجزئية التي طرحها الطالبي عن الخمر والجنس وحتى عن المثلية وعدم تقديس الصحابة، وإقراره بأن حدّ الردّة في الإسلام لا وجود له مطلقا، وتنبيهه إلى عدم وجود عقوبة الرجم التي مازالت بعض الدول الإسلامية تتوسلها كأساليب موت بشعة مقابل فعل الزنا.
كل هذه الآراء تبدو غريبة للكثيرين، الذين غالبا ما يحصرون فكر الرجل فيها، بينما كان الطالبي وسيظل من أكبر الدعاة إلى التأسيس لإسلام معاصر. توغل الطالبي في النص القرآني، لم يكن هدفه الانغلاق في النص وغلق باب الاجتهاد، بل كان من باب العودة إلى الأصل تنقية من الشوائب اللاحقة والمركّبة.
عاد الطالبي إلى النص القرآني ليثبت للعالم أنه بالإمكان التأسيس لعقائد خلاّقة لا تتنافى مع الحرية الإنسانية المطلقة في معناها الكلي. فكان يرى في الحرية وبناء مجتمع معاصر يقبل الاختلاف وقوامه الحب هدفا لجل مشروعه الفكري الذي صوبه بعين حداثية، لا تخشى الظلام، على الماضي، واستخرج منه أسسا يمكن التأسيس عليها لقيام مجتمع متماسك منفتح الفكر.
ولا أدل على اصطفافه القوي إلى صف الحرية الإنسانية من انضمامه إلى المجلس الوطني للحريات في تونس منذ سنة 1995. كما أسس المفكر “الجمعية العالمية للمسلمين القرآنيين” التي اهتمت بترسيخ مبادئ البحث المتحرر من كل القيود المسبّقة وهي ما يعيق الفكر الإسلامي منذ قرون عن تقديم بدائل حداثية ومعاصرة يمكنها التأثير.
الانتصار على القتلة
اتهم محمد الطالبي بعد الثورة إثر استضافته في إحدى القنوات التونسية وتقديمه لآرائه، بالكثير من التهم من اليمين واليسار ومن أهل الفكر أو دعاة الدين، هناك من قال إنه خرف، وهناك آخرون اعتبروا حديثه عن الخمر والعلاقات الجنسية وغيرهما مجرد إلهاء للشعب عن قضاياه الأساسية السياسية والاجتماعية، هناك آخرون قالوا إنه زنديق، آخرون كفّروه، وحتى طلبته تبرأوا منه معتبرين إياه شيخا يهذي.
وسائل الإعلام التي أرادت تحويل رمز فكري مثل محمد الطالبي إلى مهرج، من خلال اللعب على وتر سنه المتقدمة، فشلت في ذلك، فكان للرجل أن أثار بتصريحاته وحضوره الأذهان لتعيد التفكير في كل ما كان يعتبر من المسلمات.
اليوم الطالبي أشهر الشخصيات الفكرية، يعرفه أطفال المدارس الصغار قبل الكبار. ربما الكثيرون لا تتجاوز معرفتهم به حدود صورته وهو على الشاشة يقول “يريدون قتلي، يريدون أن يجعلوا مني مجنونا”، لكن الأكيد أن اسمه سيبقى راسخا.
التهم التي وجهت إلى الطالبي كثيرة لكنه وقف صامدا أمامها، لم تحرك له ساكنا، حتى أن الكثيرين شوهوا سمعته ونالوا حتى من شخصه، وأبيح دمه في الكثير من الأقطار العربية حتى، لكنه لم يرد مطلقا على التشويه، أو دعوات تصفيته، حتى أنه رفض أن تكون له حراسة خاصة.
هناك جملة لن تنسى كان يرددها المفكر محمد الطالبي يمكنها أن توضح فحوى رسالته الفكرية للعالم إذ كان يقول “أنا لا أخاف الله أنا أحب الله”، إلى الحب كان يدعو وإلى الحرية والحق في الاختلاف، إلى إسلام معاصر ومجتمع منفتح.
لم يتراجع مطلقا عن أفكاره رغم الضغط الكبير الذي سلّطه الكثيرون عليه.
حكيما رصينا وحيدا وقف قبالة العالم وقال كلمته بجرأة، جرأة غابت اليوم عن الكثير من المفكرين.
(العرب)