الموسيقار عبدالعزيز ناصر.. نقاء الثيمات وخلود النغم

الإنسان هو القضية التي يدور حولها اهتمامه وتنحاز إليها أعماله

تظل الألحان والمؤلفات الموسيقية السامية هي الأعلى رتبةً في مصاف عالم الموسيقى، وتبقى هذه الأعمال ثابتة وخالدة في الوجدان يصعب نسيانها رغم مرور الزمن، ذلك أن مبعث تأليفها لا يرتبط بشيء خلا قيمة الحب والصدق، وبما ارتكزت عليه من إحساس جمالي مُرهف، نابعٌ من كوامن الفكر والإبداع، فهناك عديد من الأعمال التي نالت شهرة واسعة في عالم التأليف الموسيقي، لكن القليل منها نال الاستحقاق في عالم الخلود الموسيقي.

الموسيقار عبدالعزيز ناصر أحد الموسيقيين المحترفين في عالمنا العربي، الذين نالت أعمالهم شهرة واسعة، واستحقت عن جدارة درجة الخلود في عالم الموسيقى، وذلك لما تتمتع به مؤلفاته، وألحانه من قيم صادقة، وما تسمو به من إخلاص في الطرح والتعبير الفني. فهي تعكس بصدق شخصية مؤلفها، وما تتدفق به مشاعره نحو إنسانية الإنسان، ووجوده في هذه الحياة.. بعيدًا عن الأهداف والأغراض العابرة، التي تنساق إليها معظم الأعمال على الساحة الفنية، كنيل السمعة أو طلب الشهرة.. فقد كان الإنسان بالنسبة له القضية التي يدور حولها اهتمامه، وتنحاز إليها أعماله، سواء في بعدها الوطني أو العاطفي أو الإنساني؛ فأعماله تلامس بصدق ما يخالج كوامن الإنسان، من أفراح وأتراح وأمال وآلام، فبقيت تعيش في الذاكرة الجمعية تستعصي على النسيان.

■كاتب المقال والموسيقار عبد العزيز ناصر

لو تأملنا خارطة الأعمال الموسيقية، التي قدمها الموسيقار عبدالعزيز ناصر، فسنجد أنها تتناول في الواقع اتجاهات ضخمة محكمة، بعضها اتجه نحو تأسيس الهوية الحديثة للأغنية القطرية وتشكيلها، وبعضها انطلق نحو استلهام الفولكلور وتلحين وتطوير الفنون الشعبية القطرية، وإحياء التراث العربي، والبعض اتجه للدفاع عن القضايا المصيرية للأمة، والأخر نحا نحو مخاطبة، ومناجاة ضمير الإنسانية، وأمالها المنشودة في هذا العالم.

لقد ارتبطت موهبة عبدالعزيز ناصر في عالم الموسيقى، منذ أن كان يافعًا بالجدة، والمثابرة في التحصيل والتعليم، والتجديد والعطاء للآخرين، وكان من احترامه للفن وذائقة المستمع، لا يقدم أعماله الموسيقية إلا في أفضل حالاتها، من الاستعداد والتحضير التام، وهكذا كان دأبه منذ أسس “فرقة الأضواء الموسيقية” عام 1966، وفي تعامله مع أكبر الفرق الموسيقية على امتداد الوطن العربي، وقد أثمرت هذه المثابرة والحرص والاستعداد الجيد تقديم أعماله القيمةُ في أفضل حالاتها، وكما ينبغي أن تقدم، وهكذا كان عندما شغل منصب المراقب العام للموسيقى والغناء بالهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون عام 1980، ورئاسة لجنة مراقبة النصوص والألحان، فقد كان حريصًا على ألا يذاع أي عمل فني لم تكتمل عناصره المقبولة فنيًا احترامًا لشرف المهنة وذائقة المستمع.

في مجال التأسيس للأغنية القطرية، نلاحظ أن الموسيقار عبدالعزيز ناصر عمل في اتجاهين متوازيين:

 الاتجاه الأول

 البحث عن الأصوات الغنائية الموجودة على الساحة، وتبنييها وتطوير قدراتها الفنية، فقدم لهذه المواهب الألحان والكلمات الراقية، بهدف تحقيق بناء فني للأغنية يقوم على أسسٍ قويةٍ متماسكة تبتعد عن الإسفاف والابتذال سواء على صعيد الكلمة أو اللحن، فقام بتطويرها لأفضل مستوى ممكن، وقدم لها أشهر الألحان على ساحتنا الغنائية، والتي مازالت خالدةً تترنم بها الأجيال، سواء الوطنية منها أو العاطفية أو الإنسانية وغيرها، فأتاح بذلك الفرصة أمام تلك المواهب لتعبر عن وجودها، وتشق طريقها في عالم الغناء، ترتقي في عالمه، وتواكب التطور على تلك الأسس التي وضعها وتصورها.

  الاتجاه الثاني

 بناء المواهب الموسيقية من خلال التشجيع والتدريب، وإشراك هذه المواهب التي تجيد العزف على الآلات الموسيقية في المحافل الداخلية والخارجية، بغرض إكسابها الخبرات الفنية التي تستطيع من خلالها الظهور بأفضل مستوى فني ممكن بحسب القدرات المتاحة، حيث كان يحدوه الأمل، بأن يرى جيلًا من الموسيقيين القطريين من دارسي للقوالب الموسيقية بشكليها الكلاسيكي العربي، والغربي، يمتلكون موهبة التلحين، والتوزيع الموسيقي العلمي السليم، ويقدمون إبداعاتهم الموسيقية في شتى المجالات على امتداد خارطة العالم.

■ الفنان عبدالعزيز ناصر مع يوسف جاسم الدرويش وعبدالرحمن المفتاح وعلي خليفة الكواري

على الصعيد الفني برزت أمام الموسيقار مجموعة من الصعاب، وذلك في سياق التحول، والانفتاح الاجتماعي الذي شهدته منطقة الخليج العربي مطلع السبعينيات، والثمانينيات من القرن الماضي، ومن أبرزها ظهور ما يعرف بالأغنية الخفيفة في رداء مختلف عما كانت عليه الأغنية في السابق، فصارت تنتشر بصورة وسرعة كبيرتين، فاختلفت الآراء حول القيمة الفنية لهذه الأغنية، فاعتبر البعض أنها تواكب إيقاع العصر ومعطياته، فيما رأى آخرون أنها: “مظهر من مظاهر الفساد والترف، وربما عصيان الجيل الجديد وتمرّده وخروجه عن الذوق العام”، وفي هذه المرحلة نجد الموسيقار لا يساير هذه الموجة، بل نجده يثابر ويجتهد في وضع أسس مختلفة للأغنية تؤدي المقاصد الحقيقية للفن كما كان يؤمن، فأثمرت اجتهاداته في هذا المضمار محليًا وخليجيًا، في بروز ألحان مبتكرة له تحمل روح الموروث الفني وأصالته، ولا تتنكر له. فاشتهرت أعماله التراثية والوطنية والعاطفية، واستمر على هذا النحو في التشبث بالأصالة، والتعبير الراقي لألحانه ومؤلفاته، حتى مرحلة الثمانينيات التي شهدت فيها الأغنية الخليجية، والعربية تطورًا، وتحولًا كبيرًا، لكنه كان مدركًا للخطر الكبير الذي يحدق بالفن في هذه المرحلة، وهو رضوخ معظم الملحنين، والموسيقيين، لشروط سوق الإنتاج الفني، وسقوط كثيرٌ منهم تحت تأثير هذه الموجة التي أثرت سلبًا على النوع والجودة للأغنية، وهنا ازداد إصرار الموسيقار عبدالعزيز ناصر وتشبثه بأصالته ورؤيته الفنية، فاستمر في تقديم أعماله الموسيقية القيمة التي تلتزم بالقواعد والأسس التي وضعها لموسيقاه، وصار يسجلها على نفقته الخاصة حتى لا يرضخ لشروط سوق الإنتاج الفني على الرغم من المكاسب المادية والمغريات التي تقدمها له هذه السوق، ومنها النجومية.

 مزج بين الفولكلور والحداثة

 استطاع الموسيقار عبدالعزيز ناصر أن يخط لنفسه أسلوبًا خاصًا، ورؤيةً فنيةً خاصة في التعامل مع الأغنية الخليجية والعربية، فقد أسهم في نهضة هذه الأغنية وقدم لها إضافات مهمة على صعيد الأفكار، والألحان المبتكرة.

 وفي هذه الأعمال تستوقفنا جملهُ التوزيعية، واللوازم الموسيقية، وتوظيفه الجيد لمختلف الآلات، وكذلك اختياره الدقيق للمؤدين، وسنلاحظ حجم التطوير الموسيقي الذي أدخله على شكل الأغنية، وكيفية توظيفه للتراث، والحفاظ على جمالياته، وسهولة تقديمه، والمزج بين الفلكلور والحداثة، حيث أعطى هذه الأعمال رونقًا، وإحساسًا بديعًا بالموسيقى التراثية، وأسلوبًا جديدًا في توزيع الأغنية، وبراعة محكمة في استخدام تكنيك الحوار بين الآلات، وكيفية توظيفها بشكل شاعري يعمق روح التمازج بين مكونات اللحن وتصريفاته.

 وسنجد هذه البراعة في عموم ألحانه، وهي توضح لنا المستوى الفني الرفيع الذي بلغه هذا الموسيقار، وما منحه الله من قدرة على المزج بين الموهبة والعلم الموسيقي الراسخ في بناء أعماله الموسيقية، وهو ما دفع العديد من الفنانين الخليجيين والعرب لنيل شرف التعامل معه.

كان هاجس الرقي بالفنون الموسيقية، والسمو بها، وإيجاد فن يخاطب المشاعر والعقل، شغل الموسيقار عبدالعزيز ناصر، فقد كان صراعه، وكفاحه في عالم التلحين ينصب على هذا الجانب، ولذا رأيناه علامةً فارقةً في الساحة الغنائية العربية، ينحاز ببصيرة إلى الفكر المستنير؛ فموسيقاه تمتاز بقوة التعبير، وتأثيرها في السامع، وبهذا العمق الفلسفي والوجداني الواضح، أمد الساحة الغنائية العربية بأعمالٍ متفردة في هيئتها ومضمونها في الوقت الذي كانت معظم الأعمال الموسيقية، تنسى قضايا الإنسان، وتنجرف نحو التكرار والانحدار، لكن مؤلفات الموسيقار كانت تنحاز باستمرار للإنسان تخاطب واقعه وآماله، وتنبش في خفايا ذاكرته، تنقده بحب وصدق، وتؤدي دورها بإخلاص عبر مؤلفاتٍ قيمة، وألحانٍ عذبة، وتقدم له ما لا يجرؤ أحدٌ من الموسيقيين على الاقتراب منه أو البوح به.

قوالب موسيقية مبتكرة

 لقد أدرك الموسيقار عبدالعزيز ناصر الخطر الذي يواجه الساحة الموسيقية العربية، فدفعه ذلك إلى تحمل مسؤوليته كفنان في هذا الجانب، فأخذ يدق ناقوس الخطر بلغته الموسيقية الخاصة مع علمه المسبق بأنه قد يكون وحيدًا في هذه الساحة، فقدم بحدسه ووعيه سلسلة أعمال موسيقية جريئة في مضامينها وزمانها، ضمنها أقوى الكلمات والأشعار المعبرة عن حال الأمة، واختار لها بخبرته قوالب موسيقية (مبتكرة) أو مستلهمة من التراث تنسجم وتتآلف مع مقاصده، فجاءت هذه الأعمال القيمة لتصنف وتضاف إلى الأعمال الخالدة التي وضعها كبار الملحنين في الموسيقى العربية، برغم الصعوبات والتحديات التي آلت إليها الساحة الفنية العربية الراهنة، وبخاصة في مجال الإعلام، الذي كان وما يزال يتجاهل مثل هذه الأعمال الجادة، لكن الموسيقار كان مصممًا على أن يؤدي واجبه في هذا المضمار، حتى لو لم يلتفت إلى صدى ندائه أحد في هذه المرحلة من تاريخ الأمة، وكان على ثقة بأن الإنسان العربي لا بد وأن يتنبه، وينفك من العقد المكبلة لآماله.

■ مع المطرب عادل مأمون أثناء مرافقة الفرقة له بتسجيل أغنياته بأستوديو الإذاعة

 لقد حققت تجربته دورًا بارزًا، ومهمًا في مرحلة صعبة من المراحل التي تمر بها أمتنا العربية، وكان حلمه أن ترتقي الأغنية العربية لتلامس الهم العربي، وتتجه بصدق نحو قضاياه الوطنية والقومية والإنسانية.

لقد حفل المشوار الفني للموسيقار بالجد والعطاء، وعلى امتداد نحو خمسين عامًا، استطاع عبدالعزيز ناصر أن يخط لنفسه أسلوبًا في التلحين معتمدًا على استلهام الفنون المحلية والعربية بصورة تثبت قدرته في التعامل مع عناصر العمل الفني على صعيد اللحن والكلمة والأداء.

ومن المعروف عنه أنه كان يكتب في أغلب الأحيان كلمات أغانيه بنفسه، وينسبها إلى أصدقائه أو إلى شعراء آخرين، وكان ينتقي الكلمات التي يريد تلحينها، بعناية فائقة ويصيغها بحرص، وكذلك كان اختياره الفني للمقامات التي تناسب مقاصد الكلمات، فنجده يقدمها بأبعاد لحنية جميلة – غير مباشرة – فكانت ألحانه تحمل بصمة فريدة تميزها عن بقية الألحان، فقد استطاع بعبقريته الفنية في تغيير بعض الأنماط السائدة التي اشتهر بها العديد من الشعراء والفنانين، ومنهم على سبيل المثال الشاعر الكبير نزار قباني، الذي طرح له الملحنون عشرات القصائد (الغزلية)، فانطبع في الذاكرة الفنية بهذا اللون، لكن الموسيقار قدم لنزار مجموعة كبيرة من القصائد التي تخرجه من عباءة هذه الصورة النمطية، المطبوعة في ذهن المستمع العربي؛ فقدم عددًا من الألبومات الغنائية، ومنها: (يا قدس يا حبيبتي، لأجلك، قمعستان، سفينة الأحزان، متى يا سيدي تفهم)، وفيها نجد نمطًا من الأشعار مغايرًا تمامًا لتلك الصورة التي انطبعت في الأذهان حول نزار قباني، حتى يخال للمرء أن الشاعر هو شاعر آخر، لقدر ما تطرحه هذه الأعمال من اختلاف في أسلوب الطرح، ومقاصده.

والحال كذلك بالنسبة لمشاهير المطربين العرب الذين تعاملوا معه، فمعظم الذين اشتهروا بلونٍ معين في الأداء نجدهم في ألحان الموسيقار عبدالعزيز ناصر، يظهرون بصورة أخرى، وبنمط ناجح مختلف مما يدل على عبقرية الموسيقار الفنية، وقدراته الفائقة في تطويع الألحان وإخراجها بالصورة التي يريد.

 ومما يحسب للموسيقار عبدالعزيز ناصر، أنه أبرع من تعامل مع الفولكلور، والتراث الموسيقي لقطر، فمنذ كان صبيًا يافعا تعرف على التراث الفني الشعبي القطري، فاستلهم هذا الفن، وقام بتلحين بعض أعماله، وتطوير البعض الأخر، وعندما التحق بالمعهد العالي للموسيقى العربية بالقاهرة، واحتك بالموسيقيين العرب، والأساتذة الغربيين، اكتسب خبرةً كبيرةً، وطوَّر من قدراته في العزف على آلة الكمان التي كان يعشقها منذ صباه، مع آلتي العود والبيانو، فأصبحت لديه مهارات وإمكانات فنية بارعة في العزف على هذه الآلات، وفي تلك المرحلة كانت الفرصة متاحة أمامه ليختلط بالموسيقيين والمثقفين والشعراء من كل مكان، الأمر الذي أسهم في ارتقاء مداركه الموسيقية والشعرية، وأعطى الأخرين الفرصة لاكتشاف مواهبه وتبني ألحانه، وبرغم كل تلك المعطيات والمغريات التي توافرت له في تلك المرحلة المهمة ليقدم ألحانه للمطربين من كل مكان، إلا أنه ظل حازمًا صارمًا قوي العزيمة في أن لا يقدم إلا الأعمال الراقية الجادة الطموحة.

وخلال سنوات الدراسة بالقاهرة، تعرف الموسيقار عن كثب على الأعمال الكلاسيكية الغربية لبيتهوفن، وباخ، وفاجنر، وهايدن، وموتسارت، وشوبرت، وغيرهم من المعاصرين، وكذلك أعمال أساطين التلحين والطرب الشرقي كالسنباطي، ومحمد عبدالوهاب، وزكريا أحمد، ومحمد الموجي وبليغ حمدي، وغيرهم، واستطاع بمثابرته وتفوقه أن يستوعب تلك الأعمال، ويستلهمها في رؤيته ولغته الموسيقية من خلال الوصول إلى هدفه الفني المنشود الذي ارتكز بالأساس على ارتباطه بمحليته التي لم يتحول عنها، حيث أثرى الألحان المحلية بجمل، وأبعاد لحنية لم تعهدها من قبل بعد أن كانت هذه الألحان ترتكز في الأساس على إيقاعاتها البسيطة المركبة والمزدوجة، من دون أن يمس روح هذه الأعمال، فأضاف لها أبعادًا جديدة مطوَّرة، واستطاع أن يعرف بالأغنية القطرية الحديثة، ويحقق لها شهرة في العالم العربي.

كانت ثقافة الموسيقار عبدالعزيز ناصر الموسوعية وآراؤه، منبع إلهام لدى الكثيرين، فقد كان مجلسه عامرًا ًبالأصدقاء والمريدين، وكان الجميع يستأنس بأفكاره، ويرحب بآرائه، وذلك لمَ عرف عنه من إطلاع، وثقافة موسوعية غزيرة، فقد كان بالنسبة للجميع الناصح الأمين، الموثوق برأيه، فلم يبخل على من تواصل معه بنصح، وإرشاد دون مواربة، أو مجاملة، ولاسيما الموسيقيين، فقد كان الأب الروحي لهم جميعًا، والنموذج لذلك الفنان النزيه الوقور الذي لم يخضع نفسه لأي إغراء مادي أبدًا، ولم يعرف عنه أنه نافس أحدًا، أو حمل ضغينة لأحدٍ، حتى لمن انتحل بعض أعماله (لم ينتقدهم)، بل ترفع عن إلقاء اللوم عليهم، واعتبرهم من تلاميذه، فنال بذلك احترام الجميع، فالكل يعرف مكانة هذا الموسيقار، ومدى رحابة صدره، فقد استمر في إبداعه يعطي بسخاء، دون الالتفات إلى العقبات، التي كانت تحاول أن تثنيه عن تجربته الفذة، فقد أوصد الأبواب أمامها جميعًا، وتوجه بما حباه الله من خير، يقدم إلى الساحة الفنية الأعمال الموسيقية الهادفة التي ترتقي بذائقة الإنسان إلى أعلى المراتب، ولهذا فنحن حين نستعرض أعمال الموسيقار، ونقارنها ببعض ما يقدم على الساحة الموسيقية، نجد البون شاسعًا بين اتجاه، يستمد ذوقه الفني من الجهل، والشهرة الزائفة، واتجاه بنى نفسهُ باستنارة العقول، وارتقاء الأذواق.

 شأن الإنسان.. وَهمْ الأوطان

 يبقى الأمل معقودًا في جهات الاختصاص، لتبادر بتبني أعمال الموسيقار التي قدمها عبر مسيرته الفنية الطويلة، وتسندها لأحد الأكاديميين الأوركستراليين، كتلك التجربة التي خاضها المايسترو نادر عباسي صاحب التجارب الموسيقية الفريدة، حيث قدم أحد أعمال الموسيقار في التراث عبر الأوركسترا : (أم الحنايا)، فمن خلال هذا النوع من الاهتمام، يمكننا توطين هذه الأعمال في إطار عالمي، فنجعل أوركسترا قطر الفلهارموني، الذي يهتم برفع ذائقة الموسيقى لدى أفراد المجتمع، يباشر عزف هذه الأعمال في المحافل الدولية، بدلًا من أن تبقى هذه المؤلفات مركونة على الأرفف، أو تقدم بشكل (مخل) يقلل من مستواها المشرف، فنوصل عبرها رسائل سامية مؤثرة على المستوى الإنساني، بما يضفي الاحترام، والتقدير على الفن القطري على المستوى العالمي.

وتظل الحقيقة التي لا مفر منها، أن ساحتنا الموسيقية العربية اليوم، تفتقر -وبشدة- إلى فنان بحجم الموسيقار عبدالعزيز ناصر، فقد ترك رحيله فراغًا كبيرًا في الأغنية العربية (الصادقة) التي تسمو بروح الإنسان، ومثله العليا، خاصةً لتلك المواهب التي اختارت طريق التأليف والتلحين الجاد.

 ومن ينشد بناء فنونٍ موسيقية مشرقة للإنسان، تعلي فيه قيم الروح، وتعمق فيه شعور الانتماء وترسخ مفاهيم الأخلاق وتقدم النموذج الفني الهادف، ستظل ذاكرتنا تستدعي هذه الأعمال الخالدة للموسيقار عبدالعزيز ناصر، وترددها باستمرار كلما لاح أمامنا شأن الإنسان وهم الأوطان.

 

مجلة الجسرة الثقافية – العدد 58 – ربيع وصيف 2021

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى