الموصل.. أشباح القتل والترويع

الجسرة الثقافية الالكترونية

*عدنان حسين أحمد

 

تنتمي رواية «الأشباح والأمكنة» لذياب فهد الطائي، الذي أصدر من قبل عددا من الروايات منها «الصبّار الأزرق»، و«ورد الدفلى»، و«ظل بلا ضوء» و«دائرة النسيان» التي فازت بالجائزة الثالثة في مسابقة الإبداع الأدبي في العراق عام 1988، إلى نمط الروايات الكلاسيكية الرصينة التي تراهن على المضمون أكثر من مراهنتها على الشكل، على الرغم من قدرة الأشكال الحداثية على توليد معانٍ وصياغات جديدة لم نألفها من قبل. ومع ذلك فإنّ النص الكلاسيكي لما يزل حيًا ومؤثرًا مثلهُ مثل أي نص ميتا سردي معاصر. وتأكيدا لصحة ما نذهب إليه فإن رواية «الأشباح والأمكنة» تقوم على بناء معماري متين وشخصيات مدروسة بعناية فائقة منحت النص بُعدًا واقعيًا لا مغالاة فيه، بل إننا، كقرّاء، نشهد نمو الشخصية الرئيسية، وهي تحقق أحلامها العاطفية والفكرية والاجتماعية على الرغم من بعض العقبات التي كانت تعترضها هنا وهناك.

لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن شخصيات هذه الرواية متنوعة في انحدارها الطبقي، فبعضها ينتمي إلى الطبقة الفقيرة، وخصوصًا البطل سمير قاسم وحبيبته وداد، وبعضها الآخر ينتمي إلى الطبقة المتوسطة التي يمثلها مهندس الميكانيك فوزي فائق الحمداني، أو مدرسة الرياضيات السيدة تماضر وسواهما من الشخصيات الأخرى التي تتحرك على مدار النص الروائي ببعده الزمكاني الذي يتمثل بمدينة الموصل قبل سقوطها بأيدي القوات الأميركية بعد عام 2003.

ربّ سائل يسأل الروائي ذياب الطائي عن السبب الذي دفعه لكتابة رواية كاملة تدور مجمل أحداثها في مدينة الموصل وهو المولود في محافظة واسط التي يعرفها عن كثب! والجواب ببساطة شديدة يكمن في تحدي الكتابة عن شيء لا يعرفه تمامًا، على الرغم من أن الطائي قد عمل في منشأة كبريت المشراق لبضع سنوات، لكنه يظل «طارئًا» بمعنى من المعاني على هذه المدينة الكبيرة التي تختلف إلى حد ما في مرجعياتها الثقافية والفكرية والاجتماعية عن بقية المدن العراقية، وإن الغوص في عاداتها وتقاليدها «ولغتها الخاصة» يحتاج إلى جهود مضاعفة لسبر أغوارها والتعرف على شبكة أنساغ هذه المدينة المترامية الأطراف.

يشكل نهر دجلة شخصية حيّة، ولا غرابة في أن يهيمن على مستهل النص ونهايته، كما يسجل حضورًا باذخًا كلما دعت الضرورة الفنية لتعميق أبعاده الحقيقية والرمزية. ومن رحم هذا النهر الأزلي نتعرف على شخصية سمير قاسم الذي ترك دراسته الثانوية ليساعد والده في العمل بمزرعة الخضراوات وبيع محصولها اليومي في السوق، خصوصًا بعد وفاة والدته التي تركت فراغًا كبيرًا في البيت الذي بدا موحشًا وخاليًا من لمسات الأم الحنون.

يلتحق سمير جنديًا في معسكر الغزلاني في مدينة الموصل ذاتها، ويتعرف على عدد من الأصدقاء الذين سوف يقلبون حياته رأسًا على عقب حينما يضمّونه إلى «التجمع الديمقراطي» الذي يتألف من بضعة عناصر مثقفة، على رأسهم المهندس فوزي الحمداني، أمين عام الحركة، ومدرِّسة الرياضيات تماضر، وأشرف حميد، خريج كلية الآداب، ووداد التي لما تزل طالبة جامعية، وحمدي الطالب في كلية الهندسة. أما سمير قاسم، أقلهم تعليمًا وثقافة، فقد أسندوا إليه مهمة المسؤول الأمني للحركة؛ لأنه يتمتع بعلاقات اجتماعية واسعة كونه يعمل في سوق المدينة ويعرف الكثير من سُكانها.

ما إن تقع عينا سمير على وداد في الاجتماع الأول حتى تلقى صدى طيبًا في نفسه، ويشعر أنه قريب منها قرب العين للحاجب، فلا غرابة أن يتودد لها أول الأمر ويقع في حبها في خاتمة المطاف. وحينما يعرف أنها طالبة جامعية يمتحن البكالوريا خارجيًا وينجح في هذا الامتحان الذي سوف يؤهله لدراسة القانون، المهنة التي أحبها منذ سنواتٍ طوال.

تحقق حركة «التجمع الديمقراطي» نجاحات متواصلة على الرغم من اعتمادها على القوات الأميركية المحتلة، ولا تجد ضيرًا في أن تحصل على الدعم المادي من المحتلين؛ لأن هدفها الرئيس هو سد الفراغ السياسي في ربوع المدينة، والتفاوض مع القوات المحتلة على القضايا الجوهرية التي تجلت بعد الاحتلال. لقد أصبحت هذه الحركة مثل الحاضنة التي تهيئ الشخصيات القيادية للمستقبل القريب جدًا. فلقد أصدروا صحيفة يومية تحمل عنوان «نينوى اليوم» وتولى فيها صفحة «صوت الطلبة»، وبدأ يكتب مقالات فيها نفَس جديد لم يألفوه من قبل، وقد أثنت وداد على مقالاته قبل زملائه العاملين في الصحيفة ذاتها.

تذكرنا شخصية سمير بالبطل الإيجابي الذي يطور نفسه ويحاول تغيير الواقع المزري الذي يعيشه غالبية المواطنين في بلد مستباح. فالاحتلال ليس طامته الكبرى وحده، وإنما الإرهاب والتطرف الديني الذي أخذ شكل «القاعدة» أول الأمر، ثم «داعش» لاحقًا. وهنا دخل البطل في إشكالية جديدة تفرض عليه مقارعة الإرهاب والتطرف الديني، لكن الشيخ عبد الله الذي يقود زمرة من هؤلاء المتطرفين يحذره من مغبة التواصل مع هذه الحركة، ويمنحه يومين لا غير للانسحاب من هذه الجماعة السياسية التي يعتبرها متواطئة مع «الكفرة والمرتدين». لقد شعر سمير بالمخاطر الجدية لهذه التهديدات، خصوصًا أنّ «الأشباح» ينفذون عمليات الاغتيال بطريقة وحشية ممنهجة. لا بد من الإشارة إلى أن قصة الحب بين سمير ووداد قد تطورت جدًا وبلغت حدّ الخطوبة، لكن أزلام الشيخ عبد الله خطفوا سمير قاسم وأوشكوا أن يقطعوا رأسه بالسيف، غير أن انفجارًا هائلاً يحدث في السرداب الذي يتخذونه مقرًا لهم، فيصاب بشظية كبيرة في ظهره تشلّ قدميه وتضع حدًا لقدرته على الإنجاب. الأمر الذي يدفعه إلى القول بأنه لا ينفع أن يكون زوجًا لوداد، الفتاة أحبها وكان يتمنى أن تكون أمًا لأولاده. هنا يأخذ النص الروائي منحى تراجيديًا. فعلى الرغم من أن البطل سمير قاسم قد تحسن بعض الشيء وصار بإمكانه أن يكتب مقالته الأسبوعية لكنه لم يعد صالحًا للزواج، حيث يقرر في لحظة موجعة أن يبحث عن زوجة لأبيه؛ لأنه موقن تمامًا بأن الحياة يجب أن تستمر حتى وإن أخذت أشكالاً مختلفة. فما عجَزَ الابن عن تحقيقه على أرض الواقع سوف يحققه الوالد ويملأ البيت الموحش بالأطفال.

لا شك في أن نهاية هذه الرواية هي نهاية تراجيدية مفجعة ينتهي بها هذا الصحافي العاشق، المتفائل، الذي يريد أن يدرس القانون بعد أن نهل من قراءاته الواسعة العميقة ثقافة متنوعة، لكنه ظل متشبثًا بخيط الأمل المتمثل بكتابة عموده الأسبوعي ذي النَفَس المغاير. أي أن الرواية قد دخلت في المنحى الرمزي على الرغم من واقعيتها الصارمة، فلقد أناط فعل الإنجاب بوالده الذي لم يرد أن يتزوج لأنه متعلق برائحة زوجته المتوفاة التي لم تترك له سوى سريرها الخشبي الذي لا يكف عن الصرير، لكنه سيقبل بهذه المهمة التي أسندها إليه الابن المُعاق جسديًا والناشط ذهنيًا وسياسيًا وفكريًا.

تنطوي رواية «الأشباح والأمكنة» على إدانة صريحة وقوية للإرهاب الفكري للحركات الدينية المتطرفة التي ابتُلي بها العراق والشرق الأوسط عمومًا، لكن الرؤية العميقة والثاقبة للروائي ذياب فهد الطائي قد منحت القارئ أملاً بأن الحياة يجب تمضي إلى أمام على الرغم من ظهور الأشباح الذين يراهنون على ثنائية القتل والترويع.

والكاتب قد أصدر عددًا من الروايات نذكر منها «الصبّار الأزرق»، و«ورد الدفلى»، و«ظل بلا ضوء» و«دائرة النسيان» التي فازت بالجائزة الثالثة في مسابقة الإبداع الأدبي في العراق عام 1988. إضافة إلى ثلاثة كتب تخصصية في الصحافة والإعلام العراقيين.

المصدر: الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى