المُعتمد بنُ عَبَّاد.. وَالعَبَّادِيُّون، نَماذِجُ مِنْ شِعْرِه وَأقَاصِيصُ عَنْ ظَرْفه / محمد الخطابي ( اسبانيا )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

عن مؤسسة “إبن طفيل” للدّراسات العربية التي يوجد مقرها بمدينة ألمرية، ومعهد الثقافة والفنون التابع لبلدية مدينة إشبيلية، صدر مؤخراً كتاب  تحت عنوان: “المعتمد والعباديون، ازدهار مملكة إشبيلية (القرن الحادي عشر)” للمستعربة الإسبانية بيلار ليرولا ديلغادو، أستاذة الدراسات العربية والاسلامية بجامعة قادس.

تقول المستعربة الإسبانية: “في الفترة التي عرفت فيها الدولة الأموية في الاندلس إنقساماً لا مثيل له، حيث تمّت تجزئة أوصال هذه الدولة، وتحوّلت إلى دُويلات أو ما عُرف بدول الطوائف، حيث باتت كل دولة مستقلة عن بعضها، إلاّ أنّ دولة بني عبّاد في إشبيلية إنفردت وبذّت سواها من الدول الأخرى. ثالث خليفة من خلفاء هذه الدولة وهو المعتمد بن عبّاد تحوّل إلى ما يشبه الأسطورة، ليس فقط لإتّساع رقعة حكمه إنطلاقاً من منطقة “الغرب”: (غرب الاندلس) حتى “مرسية” بل لأنه حوّل بلاطه إلى ملتقى حافل للشّعراء والمثقفين والفنّانين الذين تولىَّ بعضُهم مناصبَ عليا في البلاط العبادي، والخليفة المعتمد نفسه كان شاعراً مبدعاً، بالإضافة إلى كونه كان حاكماً وخليفة ومحارباً محنكا”.

المعتمد بن عباد معاصرُنا

يقدّم لنا هذا الكتاب الجديد نظرة واقعية وتاريخية عامة عن المعتمد وظرفه التاريخي، كما يقدم أقاصيص عن حياته التي واجهتها تقلّبات الزّمن وغدره ومكره، وتقوم الدراسة التي تقدمها المستعربة الإسبانية في هذا الكتاب على أسس علمية تعتمد فيها على مصادر موثوقة، ومراجع متعددة لها صلة بهذا الخليفة الذي لم يسلم من الإفتراءات والأكاذيب التي شوّهت تاريخه وسمعته، خاصة المصادر المسيحيّة على وجه التحديد التي عُنيت بحياته والأساطير التي حيكت حولها. وتشير المؤلفة الى أن هذه الشخصية الفريدة في تاريخ الأندلس ما زالت حاضرة معنا وبيننا ومعاصرة لدى كتاب ومؤلفين أمثال: أنطونيو غالا، ورفائيل ألبيرتي ،وفرناندو كينيونيس، وكارلوس كانو، وإنريكي مورينطي، ولولي ومانويل وسواهم الذين كتبوا عن هذا الخليفة أو غنّوا له وعليه، كما انّ أحدهم وهو بلاس إنفانطي قام بزيارة لقبر المعتمد في أغمات (جنوب المغرب) وألف حوله عملاً إبداعياً.

وتشير المستعربة الإسبانية في مقدّمة كتابها الى أنّ بلاطات ملوك الطوائف خاصة في إشبيلية وقرطبة كانت تغصّ بكوكبة من العلماء والأدباء والموسيقييّن، وبشكل خاص الشعراء الذين يؤمّونها والذين كانوا يضاهون او ربما يتفوقون على نظرائهم في المشرق، الذين شكلوا مثالاً يُحتذى للأندلسيين. وقد بلغ الشعر أوجَه في هذه البلاطات، وأدرك شأواً بعيداً، خاصة في نهاية القرن الحادي عشر. 

وعندما إندلعت الحرب الأهلية أو (الفتنة) كما كانت تُسمى في تلك الأزمان، إنتشرت معها الثقافة وازدهرت في مجموع التراب الأندلسي.

توضّح المؤلفة الإسبانية أنّ السيف والقلم كانا عنصرين يجريان في دم المعتمد بن عباد، فكما أنّه شيّد القلاع والحصونَ الحربية، كذلك بنى قصراً خاصاً للشّعر والشّعراء.

وتصف المؤلفة المعتمد بن عباد بأنه كان: “رجلاً ساذجاً، ونبيلا، ومثقفا، وعالما، وشاعرا مجيدا وكان راعيا للعلوم والآداب”، وقد قيّض الله له أن يعيش في عصر حافل بالقلاقل والمشاكل والأهوال والتقلبات السياسية والحربية، حيث رأى بأمّ عينيه كيف مات بعض أبنائه خلال هذه المواجهات العنيفة التي شهدها عصره.

وتشير المؤلفة الى أن المعتمد مع ذلك عاش زهاء عقدين من الزمان باعتباره الرجل الأقوى في الاندلس، خاصة بين ملوك الطوائف. وكان يحافظ على دفع الجزية السنوية (الجباية أو الخراج) للملك الإسباني ألفونسو السادس، المعروف في الروايات العربية باسم “الأذفونش”. كما كان والده المعتضد يدفع هذه الجزية بانتظام كذلك. إلاّ أن هذه الجزيات باتت تشكلّ في ما بعد عبئاً إقتصادياً على خزانة الدولة وتثقل كاهلها، وأصبح من الصعوبة بمكان أداؤها للنصارى. أمام هذا الوضع الاقتصادي الصّعب، وحيال التهجّمات المتوالية لجيش النصارى على الدولة العبادية، وجد المعتمد بن عباد نفسه مضطراً إلى طلب نجدة المرابطين في شمال إفريقيا، الشيء الذي سيغيّر الوضعَ في شبه الجزيرة الإيبيرية بشكل تام. 

وتقول الكاتبة إنّ المرابطين جعلوا حدّاً لحملات وهجمات النصارى، إلاّ أنهم ظلوا في البلاد التي حرّروها، وانتهى بهم الأمر في ما بعد إلى ضمّ الأندلس إلى الدولة المرابطية،وبسط نفوذهم عليها . ونهاية المعتمد نهاية حزينة جدّاً، فقد إنتهى به الأمر أو المآل إلى أغمات (من أرباض مدينة مراكش) حيث مات وهو أسير وكان يبلغ من العمر خمساً وخمسين سنة، ومنذ تلك اللحظة طفقت الأسطورة في الظهور.

أقاصيص عن ظرفه

وفي دراسة مستفيضة مشابهة عن حياة المعتمد بن عباد للمستعربة الإسبانية كذلك أورورا نافارّو ثاراتي تعرّضت هي الأخرى للفترة الممتدّة بين القرن الحادي عشر وبداية بسط الهيمنة المرابطية على شبه الجزيرة الإيبيرية، حيث عرفت الأندلس في تلك الفترة ازدهارا ثقافيا وأدبيا من الصعب أن نجد له وصفا دقيقا لبلوغه ـ كما رأينا من قبل- أوجا عظيما في هذا الجانب بالقياس إلى التقهقر العسكري لدى دول الطوائف.

وتتعرّض الباحثة لإنشغال المعتمد بالجَمّال، والحبّ، والشعر، والحياة الهانئة، كما تتعرّض لشخصيةٍ كان لها تأثير بليغ في حياة المعتمد بن عباد وهو أبو بكر بن عمّار الشاعر الداهية والأديب الألمعيّ الماكر.

وقد أوردت المستعربة الإسبانية عدّةَ قصص وحكايات طريفة في حياة المعتمد بن عباد، منها قصّة تعرّفه على زوجته إعتماد الرّميكية، واعتبرت الباحثة هذه القصّة ضرباً من الخيال والأساطير التي يرويها العامّة لتهويل الحدث، وقد أثبتت (مع ذلك) هذه القصّة نقلاً عن المقرّي في نفح الطيب، التي مفادها أنّ الصديقين (المعتمد وابن عمّار) بينما كانا يتنزّهان في أحد متنزهات المدينة كانت النّسمات تحرّك مياهّ الوادي الكبير حركات خفيفة فقال المعتمد لصديقه الشّاعر أجز: ” صنع الريحُ من الماء زرد” ولم يجب ابنُ عمّار على الفور، بل أطال الفكرة وكانت إمرأة من الغسّالات على مقربة منهما وسمعت ما قاله المعتمد لابن عمّار، ولمّا عجز ابنُ عمّار عن الإجابة قالت المرأة على الفور وعلى البديهة: ” أيّ درعٍ لقتال لو جمد” فتعجّب المعتمد من حسن ما أتت به مع عجز ابن عمار، ونظر إليها فإذا هي حسناء فاتنة فأعجب بها وأخذ بجمالها فسألها إن كانت متزوجة ..؟ فقالت لا، فلمّا سأل عنها إذا هي جارية رميك بن حجّاج وأنّ اسمها هو إعتماد فاشتراها وتزوّجها وأصبحت أحظى نسائه عنده. وقد كانت الرّميكية معاصرة لولاّدة بنت المستكفي صاحبة ابن زيدون التي كانت تجيد قرض الشعر كذلك.

كما أوردت الكاتبة قصة إعتماد عندما كانت تطلّ من نوافذ القصر في الشتاء والسّماء تندف بالثلج فعاتبت المعتمد كيف لا يوفّر لها هذا المنظر الجميل كلّ شتاء، فأمر بزرع أشجا اللّوز على جبل قرطبة حتى إذا نوّر زهرُه بدت الأشجار وكأنّها محمّلة بندف الثلج.

وأمام تعاظم قوة ألفونسو، وتكاثر أعداد جيشه، واشتداد بطشه، فكّر المعتمد في طلب الاستغاثة من المرابطين فحذّره بعضُهم من عاقبة ومغبّة ذلك، حيث قال ـ مخاطباً ابنه رشيد الذي كان ممّن يعارضون، كلمتَه المشهورة: “رعي الجِمال خيرٌ لي من رعي الخنازير”، ومعناه أنّه ما دام موكلا ليوسف بن تاشفين برعي جماله في الصّحراء فهذا خير من كونه أسيراً عند ألفونسو يرعى خنازيرَه في قشتالة .

وقد أوردت الكاتبة الإسبانية نماذجَ من شعر المعتمد، منشورة في أصلها باللغة العربية وقبالة كل قطعة ترجمتها إلى اللغة الإسبانية. وبعض هذه القصائد تُترجم لأوّل مرّة إلى هذه اللغة، على الرّغم من ترجمة ابن عباد من قبل خاصة على يد شيخ المستشرقين الإسبان الراحل إميليوغارسيا غوميس وسواه.

نَماذجُ من شِعره

هذا الشاعر العاثر الحظ، المنكود الطالع المعتمد بن عبّاد، الذي تمّ نقله من نعيم الأندلس، إلى جحيم الأسر في أغمات بين عشيّة وضحاها أصبح أسيراً كاسفَ البال، كسيرَ القلب، مهمومَ الخاطر، يُسام سوء المعاملة، ويتجرّع مرَّ الذلّ والهوان، وتزدحم على خواطره الفِكر والأوهام، وتطوف به إلى ذكريات ملكه الضائع، ومجده السالف وليس له خلّ أو صديق أو خدين يفضي إليه بآلامه، ومواجعه، ومعاناته، ويطارحه الحديثَ الذي يرفّه به عن نفسه، ويخفّف من أساه، ولوعته وآلامه، ولكنّه مع ذلك كان يتجلّد ويتذرّع بالصّبر، وكان يؤلمه ويشقيه منظر بناته وهنّ في الأطمار يغزلن ليحصلن على القوت، وكان ينفس عن نفسه بنظم القصائد الشجية المؤثرة، ولم تخذله قريحته الخصبة، وبديهيته الوقادة في خضمّ تلك الهنيهات الحالكة، والأيام المظلمة، والسّنين العجاف، وقد دخلت عليه بناته السّجن في يوم عيد، فلما رآهنّ في الأطمار الرثة، والأسمال البالية وقد بدتْ عليهنّ آثار الفاقة والعوز، وما هنّ عليه من بؤس الحال، وشقاء المآل أنشد قائلاً:

فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا/ وكان عيدك باللذات معمورا

وكنتَ تحسب أنّ العيدَ مسعدةٌ/ فساءك العيدُ في أغمات مأسورا

ترى بناتك في الأطمار جائعةً/ في لبسهنّ رأيت الفقر مسطورا

معاشهنّ بعيد العز ممتهنٌ/ يغزلن للناس لا يملكن قطميرا

برزنَ نحوك للتسليم خاشعةً /عيونهنّ فعاد القلب موتورا

قد أُغمضت بعد أن كانت مفترةً/ أبصارهنّ حسيراتٍ مكاسيرا

يطأن في الطين والأقدامُ حافيةً/ تشكو فراقَ حذاءٍ كان موفورا

قد لوّثت بيد الأقذاء واتّسخت/ كأنّها لم تطأ مسكاً وكافورا

لا خد إلاّ ويشكو الجدب ظاهره/ وقبل كان بماء الورد مغمورا

لكنّه بسيول الحزن مُخترقٌ/ وليس إلا مع الأنفاس ممطورا

أفطرت في العيد لا عادت إساءتُه/ ولست يا عيدُ منيّ اليوم معذورا

وكنتَ تحسب أنّ الفطر مُبتَهَجٌ /فعاد فطرك للأكباد تفطيرا

قد كان دهركَ إنْ تأمره مُمتثلا/ لما أمرت وكان الفعلُ مبرورا

وكم حكمت على الأقوامِ في صلفٍ/ فردّك الدّهرُ منهياً ومأمورا

من بات بعدك في مُلكٍ يُسرُّ به/ أو بات يهنأ باللذات مسرورا

ولم تعظه عوادي الدّهر إذ وقعت/ فإنّما باتَ في الأحلام مغرورا

وأثّر سوءُ الحال، وشظفُ العيش، ورداءةُ المطعم والمسكن في صحّته، واتفق وفود الوزير الأندلسي أبي العلاء بن زهر بن عبد الملك بن زُهر على مدينة مراكش، وكان قد إستدعي لعلاج أمير المسلمين، فكتب إليه المعتمد لعلاج بعض كرائمه ومطالعة أحوالها بنفسه، وابن زُهر إشبيلي وأحد أفراد أسرة إشتهرت بالأدب والعلم، فلم يتردّد في تلبية دعوة المعتمد وقام بعلاجها على الوجه المُرضي، ورفع قدر المعتمد بالتبجيل، ودعا له بطول البقاء، فكتب إليه المعتمد إثر ذلك بالأبيات التالية:

دعا لي بالبقاء وكيف يهوى أسير أن يطول به البقاءُ

أليس الموت أروح من حياة يطول على الشقي بها الشقاءُ

فمن يكُ من هواه لقاء حبّ فإنّ هواي من حتفي اللقاءُ

أأرغبُ أن أعيشَ أرى بناتي عوارى قد أضر بها الحفاءُ

و كان الشّاعر ابن اللبّانة قد قال لحظةَ خروج المعتمد بن عبّاد من إشبيلية إلى منفاه في أغمات فى داليته الشهيرة : 

تبكي السماءُ بمُزْنٍ رائحٍ غادي /على البهاليل من أبناء عبّاد

على الجبال التي هدّت قواعدُها/ وكانت الأرض منهم ذات أوتاد

والرّابيات عليها اليانعات ذوت /أنوارُها فغدت في خفض أوهاد

حان الوداعُ فضجّت كل صارخة /وصارخ من مفداة ومن فادي

سارت سفائنُهم والنّوحُ يتبعها/ كأنّها إبلٌ يحدو بها الحادي

كم سال في الماء من دمع وكم حملت/ تلك الفظائعُ من قطعات أكباد

إن كان بعدكم في العيش من أربٍ/ فإنّ في غصصٍ عيشي وأنكاد

*كاتب من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية-الأمريكية للآداب والعلوم – كولومبيا-.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى