الوظيفة الحديثة لـ «الدراماتورج» بين المفهوم الألماني والفرنسي

الجسرة الثقافية الالكترونية – القدس العربي

إن كلمة دراماتورج بدأت في القرن العشرين لتعيين الممارسة التجريبية، التي هي جزء لا يتجزأ من الإنجاز المسرحي، ودخلت ضمن نطاق الإخراج.
وأصبح الكاتب منتجا لنص مصاحب (paratexte) متغير الشكل، يُنسج من القنوات التي تقدمها الحجة النصية، لإلقاء الضوء عليه وفقا لوجهات النظر (التفسيرية واللعبية والجمالية) المتسقة. إن هذا النص المصاحب (paratexte)، هو في ذات الوقت، نص تمهيدي للتفكير، ونص مرافق، ونص- دليل لعمل الخشبة، الهدف منه إعداد وتطوير النتيجة الدراماتيكية: إنه يتعهد بالمشروع، ويتدخل بشدة، في جميع مراحل اختيار العرض المسرحي، إنتاجه وتمثيله؛ ومع ذلك يظل مستقلا ومحتفظا لنفسه بعين نقدية لكل الأنشطة المسرحية، ساعيا إلى تطويرها وتحقيق أفضل وضع ممكن لها. وكما يذكر برنارد دورت (إنه مركز ثقل النشاط المسرحي الذي ينتقل من تكوين النص إلى عرضه[…] وهكذا فإن الدراماتورج اليوم، يخص الكتابة المسرحية بشكل أقل […] من تحول النص إلى تمثيل، وعرض، في أوسع معنى لهذه الكلمة). ‬وكل ذلك يدخل ضمن شروط التلقي ‬والتفسير الاجتماعي. فكلما تغيرت الشروط الاجتماعية والتاريخية للتلقي، ‬تغير المعنى. إن مصطلح النص المصاحب (paratexte)، وفقا لجان ماري توماسو: يشمل جميع أشكال النصوص والمواد النصية المساعدة، التي تجعل النص أشد تأثيرا، أو لتكوين مواد ممررة تحيط بالعمل، مثل (التوجيهات التي يكتبها المؤلف المسرحي لكي يتقيد بها المخرج والممثلون).‬
وقد عرفّ ميشيل رؤول ديفيس الدراماتورج اليوم: (بأنه شريك للمخرج مكافِئ، في تمهيد الطريق، لهذه الكتابة السيميائية واللفظية وغير اللفظية، ولتنفيذ العرض وتتبع أثر خطوط القوة، ورسم نطاقات الإطناب، لتسهيل عملية إنجازه مستقبلا، من قبل المتلقي في معانيه الممكنة -إن معنى النص لا يقيم، بكل تأكيد، في هذا أو ذاك من «التفسيرات»، وإنما في بيان عموم قراءاته، وفي النظام الجمعي). وبهذه الطريقة، يصبح «الدراماتورج» على مقربة من المحلل بالمعنى السريري: إنه يستمع إلى «كلام» النص: في تغيراته وزلاته وفجاواته، من أجل قيادة «قوته» والكشف في نهاية المطاف عن محتواه وإبراز دلالاته غير المباشرة، واللعب الممكن على ومع اللغة، في المنظور الذي هو «في أفضل الأحوال» يكون قادرا على حماية معانيه المتعددة ومواده النصية.

*الدراماتورج بين المفهوم الألماني والفرنسي

لقد حاولنا أن نشير إلى هذا التحول الدلالي للنص ومروره إلى الخشبة. بعد أن تواصل الإخراج في أوروبا وفي فرنسا مع التقاليد الألمانية، وبشكل خاص مع المبادئ البريشتية، وتكيف مع هذه المجموعة من العادات والوظائف الإنتاجية الجديدة، التي صارت تشمل فضاء الخشبة، كما تشمل جسد الممثل، وطريقة اتساق مكونات العرض في إخراجه، بحيث بات يشكل منهج بريشت، بالنسبة للمسرح الفرنسي، مثل اتجاه أو حركة لابد من الانتماء إليها. يقول المخرج الفرنسي روجي بلانشو في هذا الصدد، على سبيل المثال: «الشيء الوحيد الذي يمكنني القيام به، هو نسخ طريقة بريشت؛ وعندما أفهم ما يقوم به، عندئذ بإمكاني القيام بعمل مخالف له». ولقد استنسخ بلانشو بريشت المخرج وليس المؤلف، حيث كان يفرق دائما بين الاثنين. ولقد تأسست الفائدة لدى بلانشو على مزج اثنتين من الصفات المميزة التي تبدو متناقضة. (من ناحية، القلق من تفاصيل المواد المادية، والتأكيد الذي كثيرا ما يتكرر في «الحقيقة الملموسة»؛ ومن ناحية أخرى، طموح بريشت ووقوفه ضد النزوع الطبيعي، ومعارضته لمسرح الوهم. ولقد حارب بلانشو من أجل خلق المسرح الذي يحترم البعد الإنساني في التجربة المعيـشة، مثلما سعى أيضا إلى مفاجأة جمهوره، من خلال رفض الصور المألوفة، وتسليطه الضوء في عروضه على العلامات والمعاني الجديدة). ودخل المخرج «آلان ري» أيضا في هذه الحركة، وجان داستيه، الذي، على الرغم من عدم دخوله في هذا المنطق، إلا أنه كان معجبا ومفتونا ببريشت. وقد غرق المسرح الفرنسي، في فترة من الفترات، بمنهج وطرق تفكير بريشت وكيفية استخدامه للدراماتورج على اختلاف أنواعه، وصار يفكر بأن عليه أن يشتغل على هذا الموضوع باعتباره الخلاص الوحيد له.
إن كل ثقافة بمثابة «رحلة» تتخذ مسارات متعددة، مباشرة تعمل على تحويل نظرة أولئك الذين ينظرون إليها، وتتحول هي بدورها في بوتقة الأماكن التي تستقبلها لاسيما أن المسرح يسافر ويرحل، وإن كل قطعة من تأريخه، قد بنيت على الاضطراب والتحدي، والانفتاحات التي خلقتها رحلات الممثلين والفرق. ولقد شهد القرن العشرون العديد من الرحلات والتبادل الثقافي من خلال الجولات الدولية لهذه الفرقة أو تلك، وقد أثر كل هذا على مهنة المسرح وتنقلاته تأثيرا مضاعفا، من خلال الالتقاء الفني الذي يحدث بين ثقافتين وطنيتين، غريبتين عن بعضهما البعض، غالبا ما تكون الأولى مصدرا، والثانية هدفا، مثل عمل الترجمة من لغة لأخرى. وإن نقل الثقافة «الأصلية»، غالبا ما يتسبب في إحداث ظواهر تحدٍّ واعتراض وتأثير يعزز من هويتها الخاصة، ويحط أو يثري علاقتها مع الثقافة الأخرى، الذي يفسره التعليق عليها، سواء كان ذلك خصبا أو عقيما، من خلال عامل التبني لجزء منها. (إن نماذج «نقل الثقافة» هذه، بغض النظر عن التبادل والتأثير، فهي عديدة، ويمكن تلخيصها بالتكيف، التشويه، التعديل، التقليد، النقل، الاستيعاب، الاقتراض، الاقتباس، الكولاج، التطعيم، التعيير، التهجين، والتفاعل. إنها تنقل الفكرة التي تجعل كلتا الثقافتين شريكيـن لبعضهما البعض، بتشجيعهما على إقامة التعاون الوثيق بينهما)، وفقا لباتريس بافيس.
لقد كانت فرنسا منقسمة إلى قسمين، وذلك للعديد من الأسباب، بما في ذلك الأسباب السياسية، لاسيما أنها كانت محتلة من قبل الألمان, ولهذا كان هناك نوع من الحرب الباردة المسرحية التي تشبه بشكل مباشر أو غير مباشر، الحرب الباردة التي نشأت بين فرنسا وألمانيا، في أعقاب الحرب العالمية الثانية. وهذا ما لاحظناه، مثلما يقول ميشيل باتيون، بسرعة فائقة في عرض مسرحيتي «الأم شجاعة» و»حياة غاليليه» اللتيـن قدمتا في عام 1954 وعام 1955، على مسرح الأمم. وعلينا أن نتخيل ماذا يعني أن نسمع اللغة الألمانية في عام 1954، في قلب العاصمة الفرنسية باريس. ولقد حاول «جان فيلار» القيام بذلك في مهرجان أفينيون، وقد هوجم هجوما شرسا من قبل النقد والنقاد، وهذا ما يذكره كتاب جان كلود باردو. وكان على رأس مهاجميه الناقد جان جاك غوتييه، الذي اتهمه بالدفاع عن الموقف البيروسي المناصر للهتلرية، في عمل «أمير هانبورغ» لمؤلفه هنريش فان كليسيت، وبعد بضعة أشهر في وقت لاحق، اتهم بانضمامه جنبا إلى جنب، مع الجيش الأحمر مع عروض بريشت. ولكن في الحقيقة، يختفي وراء كل هذا الهجوم والشراسة في النقد، عدم الرغبة بسماع اللغة الألمانية من جديد في باريس. لقد كانت معركة اللغة في المسرح الفرنسي والألماني هي الأكثر أهمية للغاية. فعندما غزا الألمان مدينة ستراسبورغ الفرنسية، فرضوا على مسرحها برنامجا ألمانيا، وعندما استعاد الفرنسيون الألزاس واللورين، أعادوا فرض المسرح الفرنسي. وعندما احتل الألمان من جديد ستراسبورغ في عام 1940، أول شيء قاموا به، هو إنشاء مسرح وطني ألماني، وجلبوا إليه أكثر ممثلي ألمانيا قدرة وموهبة، بحيث كان يقدم هذا المسرح، خلال الحرب العالمية الثانية، برنامجا مسرحيا مبهرا. وعندما تعرض المسرح الوطني لستراسبورغ للقصف، ولم يعد صالحا، قام الفرنسيون مباشرة بإنشاء المسرح الوطني في الألزاس، في مدينة كولمار لإعادة توطين المسرح الفرنسي أمام اللغة الألمانية. لهذا لم يكن وجود بريشت فوق خشبة مسرح الأمم في فرنسا سهلا؛ ليس فقط لكونه بلشفيا، وإنما لأنه كان ألمانيا. لا سيما أن عروضه كانت تتسم بكونها متسقة بشكل لا يصدق. كل شيء فيها، وكل ما موجود على المسرح ومشارفه، كان مفكرا به بطريقة جيدة ودقيقة. وقد تعرض جان فيلار إلى هجوم وجدل شرس، لأنه، وبكل بساطة، كان يؤمن ببريشت وأعماله، ولأنه كانت لديه الشجاعة لإدخاله إلى المسرح الفرنسي، على الرغم من اعتراضه الشديد على بعض المقالات النظرية والعملية لديه. وخاصة فيما يتعلق باتساق أعماله التي تبدو في البداية، عملية ولكنها شيئا فشيئا، تذهب نحو التنظير.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى