‘امتلاك’ .. السعي للخروج على المارد فينا

الجسرة الثقافية الالكترونية
قاسم ماضي
يشتغل القاص والكاتب أحمد جبار غرب على ثيماتٍ كثيرةٍ في صومعته السردية، أو لنقل في معمله السردي الذي اختاره، ونحن عندما نسلّط الضوءَ على أي منجزٍ، نحاول تذكير القارئ ببديهيات الكتابة، بوصفها تمثل أسلوبا ًمن أساليب عدة، تكون لدى الكاتب كالأدوات بين يديه، وهو بالتالي – وأعني الكاتب – هو الذي يختار الأداة التي تناسبه مما يطمح لإظهاره، والذي اشتغل عليه، والذي يحتوي على آليات عديدة تتبنى ترجمة الأفعال والسلوكيات الإنسانية والأماكن إلى بنى من المعاني والايقونات والاشكال بإسلوب سردي فني، ونذكر منهم حينما قدم الكاتب غريماس فهماً جديداً للشخصية في الحكي، وما يمكن تسميته بالشخصية المجردة، حتى الأفكار السرية للأبطال (جوانيات الشخصية):
“ليس هناك ما يجول بخاطري، غير أن استمتع بحوار ناضج يغطي مساحة مما أفكر، وكثيرا منا من تكون دواخله ملأى بالأسئلة الضائعة” (قصة شوكولاته).
محاولاً غرب، ومن خلال هذه المجموعة القصصية التي تحمل العنوان “امتلاك” الخروج عن وطأة الأزمة إلى عالم الحياة والتجدد والأمل، والتي أراد لها أن تكون حاجزاً بينه وبين هؤلاء الدُهمّاء، وإنه لم يُخلق ليكون أداة لتسلية هؤلاء، إنما خُلقَ ليكون له منارة وهداية، أو كما تقول فلسفة الأدباء، وهي ترجّح كفة المواجهة ضد التعسف والفساد، وأن القيم الإنسانية في زماننا هذا، وخاصة في بلدنا العراقي قد أُهدرت إهدارا، وأن الغلبةَ قد أصبحت للطغاة ومن هم دون الطغاة.
فماذا يفعل أديب عراقي وكاتب مثل القاص والكاتب أحمد جبار غرب؟ وهو صاحب الموهبة، إلا أن يثور من أجل كرامة الأدب، فجاءت مجموعته القصصية الأولى لتتصدى لتحديات عالم السرد الحديث، التي انطلق منها باعتبار أن المشهد القصصي الحديث لا يزال يشغل مساحة كبيرة في عالمنا الأدبي في الوقت الحاضر، نظراً إلى أهميته، ولكون القصة القصيرة قادرة على أن ترصد مجموعة من الأهداف، والقيم بين الناس، وتبث فيهم روح الوعي ، وترسل إشارات للانفتاح على الحياة، ووسائل للتعبير عما يعيشه الانفتاح.
ومن خلال مجموعته المذكورة، والتي يروج لها عبر وسائل كثيرة، كي تأخذ طريقها بين المجاميع القصصية التي صدرت في هذه الفترة، ولكي يسهم في إرساء الوعي المعرفي لدى المتلقي، وهو يرسل عدة إشارات في هذه المجموعة التي أراد لها أن تكون على أجواء جديدة متنوعة في المسألة السياسية وكذلك الواجدانية وما إلى ذلك.
“إن الكهرباء أصبحت ضرورة حياتية، لا يمكن الإستغناء عنها، سيما إذا تزامن ذلك مع خواء الإنتاج من الطاقة الشحيحة” (من قصة المولدة).
ولهذا جاءت معظم قصص هذه المجموعة “امتلاك” التي أراد لها القاص والكاتب غرب أن تحمل عبرا ً ومواعظَ أكثر، ورسائل ومضامين تشتبك مع فوضى الواقع كي يسهم في سبر أغوار الإنسان المحطم وسط هذا الواقع، فيحاول تجسيد مسألة التشاؤم والتفاؤل، وتفكيك ما يعتمل في داخله من نزعات، وحاجات ضرورية لا بد من توفرها، ونحن نعيش في زمن التكنولوجيا التي ما عاد الإنسان الاستغناء عنها.
وهو في سرده الجمالي، ولغته الصافية الخالية من الشوائب، وحسه الفني، وحركته بالحياة، أدخلنا في عمق التجربة التي يحاول نسجها، وهو يرصد الإنسان العراقي الذي يعيش المأساة ، بمعنى أن الأدب هو تجربة الإنسان الفكرية، التي تتحول إلى تجربة شعورية، والتجربة الحياتية التي تتحول إلى تجربة في الإحساس، ولهذا جاءت اشتغالاته الكتابية في مواقع العمق، والإمتداد، بحيث ينظر إلى شخوصه التي تحيطه من كل مكان، نظرة جديدة تتمحور في الآفاق الفلسفية التي يعيشها الإنسان.
“من هذا الكم الهائل من المعاناة والإحباط، يبدو إن قضيتنا خاسرة ومشكلتنا عويصة مستمرة على مدار السنين”. (قصة المولدة)
يقول عنه القاص والروائي العراقي المعروف شوقي كريم حسن: قصص أحمد جبار غرب شدتني موضوعاتها المنتقاة بقوة ملاحظة، ونبش دقيق، لكن هنا لا يكفي أبدا، لا بد من مشغل يعيد كل الأشياء إلى حقيقة خلقها الإبداعي، وهذا ما يجب أن يفكر به القاص، ويحاول ديمومته، كيف ذلك؟ سؤال أتركه للسارد أولاً، وللمتلقي الذي قد يقف معي في الضد مما قلت، وهذه واحدة من الاماني ألتي أرغب في تحقيقها!
“كنت أرى في المطر عالما خاصا فيه سمو وروحية مقدسة، يجذبني هطوله، وأستمتع بصوته المنهمر بغزارة، وطالما أبهجني هذا المنظر، وهو يسحبني إلى مديات بعيدة عن التصورات، وعندما تفيض ساحاتنا بالمياه، نلجأ إليها حفاة الأقدام”. (قصة تداعيات رجل يحتضر).
يمكن قراءة قصصه قراءة متأنية “تسكع، المولدة، الرجل الطاووس، امتلاك، خيالات، شوكولاته” وغيرها من القصص، لتجد في عوالم شخوصها الداخلية الحلم الذي انطلق منه القاص غرب، وكذلك حيوية الحركة من خلال استيعابه ومعالجته لمعاناة الانسان العراقي المكتظ بأزمات اجتماعية وسياسية وتوترات تحيطه من كل مكان تصل إلى حد الاختناق والموت.
“وإمام هذا المد الروحي في اختزال اللحظات، يتسرب إلى نفسي الحنين والشوق إلى الغناء، فانغمس في ترتيل الكلمات والإلحان في شهقات متلاحقة”. (قصة امتلاك)
بقي أن نقول إن القاص غرب كتب مجموعته القصصية ببعديها الإنساني والسياسي، وكذلك لما تحمله هذه القصص من دلالات تكشف مقدرة الكائن العراقي على التصدي لمواجهة الطغيان وصعوبات الحياة المتجددة، وهو يستذكر الكثير من تفاصيل حياته اليومية، وهو بذلك يضع كل التفاصيل في السرد دون إختصار، ولأنه كاتب وصحفي فهو يعتمد على ما يرصد من ميدان الواقع، فيبدو السرد الذي استخدمه في هذه المجموعة هو سرد ذاتي وموضوعي متناولاً أبطاله بسرية تامة.
المصدر: ميدل ايست اونلاين