انحراف الإعلام الثقافي في الجزائر.. السبب وأشكاله المتعددة / عبد الكريم قادري ( الجزائر )

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص – 

تعدّ الجزائر من بين الدول العربية السباّقة إلى التعددية الإعلامية في مجال الصحافة المكتوبة، بعد أن قرّر مجموعة من الإعلاميين ترك الوظيفة في الصحف الحكومية، للخوض في تجربة الصحافة الحرة، على خلفية التعددية الحزبية التي أقرتها الجزائر نهاية فترة الثمانينات، التي ولدت من رحم الأحداث الشهيرة التي شهدتها البلاد أكتوبر سنة 1988، بعدها وبفترة قليلة دخلت الجزائر في دوامة من الدماء، عرفت فيما بعد بالعشرية السوداء، كان فيها الصحفي هدفا مباحا لعمليات القتل،  لترهيب البقية  لقول نصف الحقيقة أو الصمت، لكن العديد منهم أرادوا قول كل الحقيقة ولا شيء سواها، وقدموا أنفسهم قربانا  في سبيل إرساء قاعدة إعلامية، مُؤسسة على أركان الحرية والحقيقة والموضوعية، فكان مصير العديد منهم القتل، بعد أن طالهم مسلسل الاغتيالات المبرمجة.

انتهت هذه المرحلة وأصبحت من الماضي، ومضت تجربة الصحافة في الجزائر إلى الأمام، بعد أن أرهقها مخاض الولادة، لينعكس كل هذا الزخم في العدد الهائل من العناوين الصحفية المتعددة، المختلفة في الخط والهدف والاتجاه، كل واحدة منها يرتكز على مرجعية فكرية ودينية ونضالية ولغوية ما، لكن البعض منها فقط استطاع أن يصل إلى شريحة واسعة من المجتمع الجزائري، أما البقية فكانت فكرة انطلاقها أساسا خاطئة، لأنها لم تدرس واقع القرّاء، وترسم من خلالهم إستراتجية للوصول لهم، فكانت تفكير مؤسسوها يندرج في خانة الاستفادة من الريع، الذي تعكسه المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار، والتي تغدق بالإشهار على كل مسبح بالدولة وتلمع ما عجزت عن تلميعه.

وقد أدرجت هذه المقدمة من أجل وضع صورة شاملة عن واقع الصحافة المكتوبة في الجزائر، من الناحية التاريخية التي تظهر مدى التضحيات الجسام التي قدمها المؤسسون لهذا المتن الحر، فكانوا بمثابة الأيقونة والمرجعية المهمة التي يمكن العودة لها كلما تم الابتعاد عن جادة الطريق، ومن الناحية الثانية أدرجت صورة واسعة عن واقعها الحالي، ومدى المُيوعة التي وصلت لها هذه الحرفة/ المهنة، بعد أن غاب عنها الحس المهني والموضوعي من ضمير ممارسيها، للعديد من المعطيات والمسببات التي يصعب تحديدها وحصرها في هذا الموضوع الذي جاء ليتحدث عن فكرة بعينها والمتمثلة في انحراف الإعلام الثقافي.

مُيوعة الصحفي من مُيوعة الناشر

أقول بأنه بعد أن ماع الناشر أفرز واقعا  تنعدم فيه أبسط أخلفيات المهنة، وأقصد بهذا القول الإعلام الثقافي، الذي تقوده مجموعة من الشباب المتحمس للظهور وخدمة أموره الشخصية بأي طريقة كانت، بعد أن وجد نفسه يكتب عن الثقافة بدون أن يكون هذا اختياره، يطبق مقولة “إذا كنت في قوم فاحلب في إنائهم”، لكن هذا الإناء تم ملئه بحليب فاسد وحامض، تخّمر مع الوقت فأسكر العديد منهم، فأصبحوا كناقة الأعشى، يخبطون خبطة عشواء، ومع الوقت أصبح المشهد أشد مرارة بعد أن تم تشكيل لوبي ثقافي، يغدق الألقاب الأدبية والفنية على من يشاء، ويحكم على أي عمل لأي مبدع لا من خلال المتن ومادته بعيدا عن اسمه والظروف التي ولد فيها، بل يتم الحكم عليه من خلال ما يمثله لهذا اللوبي وما سيقدمه، سواء كان هذا شخص معنوي أو مؤسسة ثقافية، فأصبحوا يتعاملون من الأسماء لا مع النصوص، ومع المؤسسات لا مع برامجها، هذه الأخيرة “أي المؤسسات” هي الأخرى ومن اجل آن تتقي شر هذه الأقلام المسمومة، أصبحت كل مرة تتفنن في لجمهم، من خلال أشياء بسيطة تشبه كثيرا “الرشوة”، بل هي بعينها، إذ يتم تلوينها وتزيينها لتصبح في الأخير حق خالص للإعلامي “أقولها بتحفظ”، يصعب فهم هذه المعطيات لذا سأخلق مثالا يسّهل من عملية فهم هذه العملية برمتها، دون التورط في ذكر الأسماء أو المؤسسات، أعيد القول بأن المهرجان لم ينظم وهو مجرد مثال لكنه يحاكي واقع ما ” نظمت مديرية الثقافة لولاية باتنة مهرجان سينمائي تم تسميته بـ “بمهرجان أوراس للسينما الثورية”، في طبعته الأولى تم دعوة الصحافة، وغطوا لهم نفقات المبيت في الفنادق وأمنوا المأكل والمشرب، فكان المهرجان بمثابة التحفة النادرة والفلتة الثقافية والفنية التي يجب تكرارها من خلال التغطية الصحفية، على الرغم من أن الأفلام المشاركة يعود تاريخ إنتاجها إلى سنوات مضت، ولا تتوفر فيها أدنى الشروط الفنية الضرورية، ناهيك عن التنظيم السيئ والبرامج المتداخل، لكن بتهليل الصحافة صار فلتة من فلتات المهرجانات الناجحة، بعد سنة أعيد تنظيم هذا المهرجان لكن هذا المرة تم تدارك الأخطاء، وبرمجت أفلام جديدة للمشاركة، والتنظيم كان أكثر إحكاما، والبرنامج كان ثريا، لكن من أجل خفض الميزانية لم تتم تغطية نفقات المبيت والمأكل والنقل للإعلاميين، الذي يمثلون مؤسسات خاصة لديها مداخيل وخط عمل معين، وهنا تحول المهرجان والأفلام المشاركة فيه والتنظيم والبرنامج … إلى كارثة كبيرة من خلال التغطية، وهناك من يطالب حتى بلجنة تحقيق من الوزارة المعنية لأن هذا المهرجان لم يكن بالمستوى المطلوب، يقيمون الدنيا ولا يقعدوها، وأكثر من هذا أن الذين كتبوا عن هذا لم يحضروا للمهرجان”.

وهناك أمثلة عدة عن هذا الواقع، وقد فهمت الجهات المنظمة لهكذا تظاهرات هذه اللعبة جيدا، وصارت هي الأخرى تتفنن في رشوة الصحفي، الذي تعود عن هذه التصرفات، وصار حقا مشروعا وخاصا له كما سبق وقلت، وهناك جهات تفكر في كيفية لجم الصحفي قبل حتى أن تفكر في برنامجها الثقافي، ومن هذا المنظور نستنتج بأن القارئ/المتلقى، هو المتضرر من هذا الفساد الإعلام الثقافي، والضحية الذي يتم النصب عليه من خلال تقديم مواد كاذبة له، وأكثر من هذا تقوم بعض الجهات بشراء رؤساء أقسام الصفحات الثقافية للجرائد الكبرى، إذ يتم وضعهم في لجان معينة، وتقدم لهم الأغلفة المالية نظير هذه الوضعية “الوهمية”، لكن من خلالها تضمن عدم تمرير أي نقد يوجه لهم، لكن هناك مساحة نقد صغيرة لذر الرماد في العيون.  

أسئلة موجهة/أجوبة محتملة

أعود لهذا اللوبي الثقافي الذي بات يبحث عن كل مكسب يقدم له، على حساب الثقافي، وهنا طَرقِ العديد من الأبواب التي تضمن له الابتزاز، الذي يُولد منه مقابل مادي أو معني يضمن له استمرارية ما، لذا بدأ في تلويث المشهد الأدبي، وحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة، وحتى الأمور الشخصية للمبدعين، من أجل فرض واقع معين له و لكل من يدفع لهم ويقدم لهم خدمة معينة، ليكونوا بمثابة الأداة التي يُضرب بها غيرهم، يشنون هجمات إعلامية شرسة على أشخاص معينين، وهنا سأجلب مثال أخر أكثر واقعية من الأمثلة الأخرى،  وأقصد به اتحاد الكتاب الجزائريين، الذي يترأسه الشاعر يوسف شقرة المُزكى من طرف فئة واسعة من كتاب وشعراء مثلوا كل ولايات الوطن خلال مؤتمر جامع، ولأن يوسف هذا لا يقطن بالعاصمة ويمثل الجزائر العميقة، فيتم من حين لآخر تسليط العديد من الإعلاميين الذين من المفترض أنهم يمثلون الفعل الثقافي ويكتبون عنه بصدق، لكنهم يكتبون بطريقة فيها الكثير من التحامل الظاهر، وبعيدا عن كل موضوعية، ويظهر هذا حتى من خلال الأسئلة الموجهة والمدروسة له، من اجل الوصول إلى معلومة معينة، يتم اختيارها ودعم مواضيعهم على أساس أنه رد، يخدم الجهة الأخرى التي دفعت بالصحفي لهذا، وأنا شخصيا كنت شاهدا على هذه التصرفات البعيدة كل بعد عن الاحترافية التي ضحى من أجلها العشرات من الإعلاميين، وهذا سنة 2009 عند انعقاد مؤتمر اتحاد الكتاب الجزائريين، لاختيار رئيس، وطبعا لكل مؤتمر شروط وقوانين مسيرة للعملية، وهناك دائما شخص أو أشخاص مع أو ضد أي عملية، والاختلاف لا يفسد في الود قضية، أقول بأنني شاهدت أربعة أو خمسة من الكتاب خارج المقر ـ وهذه شهادة أقدها للتاريخ الثقافي ـ عارضوا انعقاد هذا المؤتمر، لكن بعد يوم تفاجئت من الإعلام الثقافي المكتوب، الذي جعل من عدد المعارضين الأربعة أكثر من 100 معارض، وتم ذكر العديد من المآسي التي حدثت، وأنا شخصيا لم أشهد ولو واحدة منها، ما عدا هذا التلفيق المدروس والمتعمد، والكذب على القراء، هذا من الناحية الشكلية، أما من الناحية العملية والإجرائية فأظن بأن الأمر صار أكثر سوادا، بعد أن أُستعمِل قلم الإعلامي الناقل للمعلومة بطريقة خبرية، إلى كاتب للنصوص الأدبية، شعرا ونثرا، بعد آن ضمن من يمتدح عمله وينشر له، ويأخذ حتى الجوائز، وعلى ذكر الجوائز هناك حادثة طريفة وقفت عليها شخصيا منتصف العام الماضي، حين كتب أحد الإعلاميين على جداره في الفايس بوك بأنه ندم لأنه شارك في هذه المسابقة، وطبعا جاءه هذا الشعور بعد أن وصله خبر تحصله على جائزة ثالثة، وهنا أفتح قوس وأقول بأن ندمه هذا يعود إلى انكسار أفق توقعه، بعد أن توقع الجائزة الأولى، مع العلم أن حكمه هذا أطلقه وهو لم يقرأ نصي الفائز الأول والثاني، بحكم أن العمليين لم ينشرا.

أرجع وأقول بأن الناشر لعب دورا كبيرا في هذه العملية، خاصة وانه لا يلزم الإعلامي بمعطيات معينة تنظم مهنته وتلزمه الحياد الإعلامي، والفصل بين ناقل الخبر وصانعه، لكسب ود القرّاء الذين فهموا هذه اللعبة جيدا، وأكثر ما أدعو إليه هو الالتزام بأخلاقيات المهنة، والمحافظة على المساحة البيضاء التي تركها من مات في سبيلها، وتطبيق ما تفرزه المخابر العلمية للصحافة والتكوين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى