«انكسارات صبي».. تكسر فنية الرواية

الجسرة الثقافية الالكترونية-السفير-
تشكّل رواية نديم نجدي (انكسارات صبي) الصادرة عن دار الفارابي، مرجلًا يفور بالقضايا الإنسانية انطلاقا من شخصية البطل (موسى) ممثّلًا جيلًا عايش مرحلة الحرب ولم يجنِ سوى الهزائم والانكسارات التي ارتدّت عليه أزماتٍ داخلية، مؤكّدًا أن دخول الحرب كان نتيجة ردّات فعل نفسية وكذلك الانتماءات الايديولوجية والحزبية. فتتنقل الأحداث بين مراحل زمنية متتالية تركت بصماتِها على جبهات من عايشوها، وأمكنة تراوحت بين الأليفة الحميمة التي غالبًا ما غادرها شخوص النص مجبرين ليقطنوا في أماكن معادية وغريبة لا خيار لهم فيها، بدءًا من انسلاخهم عن محيط العائلة الضيّق والاقامة في مدرسة رهبانية داخلية، لم تجعل من قاطنيها سوى عصابيين وجدوا أنفسهم خلف متاريس الحرب الّتي دخلوها اثباتًا للوجود وردة فعل نفسية تعود أسبابها الى اضطرابات طفولية، ليموت فيها الشريف حسب مفاهيمه وعقائده كـ(عمار وجوزيف ورضوان…) الأخصام الذين ألمح الكاتب الى أن وقوف الحرب ربما كان يتوقف على زيارة متبادلة بينهم كمقاتلين ومتحاربين، ليكتشف كل فريق أنه يشبه عدوّه في الموت والتفكير لكن الخلفيات تختلف، وبقي المستغِلّون الانتهازيون الذين أوصلتهم دماء رفاقهم الى مراكز جعلتهم يتنكرون لحيواتهم الماضية كـ(نايف). وظلّ من شاء له القدر أن يعيش رغم لعبة الموت التي قلّما نجا منها أحد، هائمًا على وجهه متنقّلا بين أصقاع الأرض تحمله أمواج الهزائم والانكسارات فيحن إلى ماض لم يبق منه سوى ذكرى من الألم والفرح.
هذا هو الموضوع الرئيس الذي تفرّعت منه موضوعات أخرى استطاع الكاتب أن يقحمها مسرح الأحداث، ناصبًا جسورًا بينها وبين الموضوع الأساس، ومن هذه الجسور ما كان متينًا فنجح، ومنها ما كان ضعيفًا فأخفق في عملية الربط، ما جعل العديد من الأحداث والشخصيات زائدة، ما كان غيابها، لو حصل، ليؤثّرَ في مجريات الحوادث والحبكة.
وقد تضافر معظم عناصر الرواية وتقنياتها في بلورة الرؤية التي أراد الكاتب الوصول اليها، وهي جلد مرحلة الحرب التي لم يكن فيها رابح بل الجميع كانوا خاسرين، مطلّا عبر ومضات ضوئية سريعة على موضوع المقاومة التي لم يتمكن من جعل روايته وسيلة للمقاومة بالثقافة والفن بل جعلها مقاومة في الثقافة والفن، مقلّلًا من مثاليتها في كثير من الأحيان خصوصًا في حديثه عن الدور النسائي في هذا العمل العسكري.
وعلى الرغم من أهمية الموضوع المطروح، الا أن الكاتب أضاف إليه قدراته العلمية والمهنية في علم النفس والفلسفة، مما جعل روايته منبرًا لإعلاء صوته المهني. وهكذا ترك الفنية الروائية تتقلّص لصالح الطرح والفكرة، متجاهلا أن موضوع الرواية ليس سببًا من أسباب نجاحه، فالموضوعات مطروحة في الطرقات، إنما الفنية الروائية هي التي تجعل الموضوع متميّزًا وتجعل النص محلّقًا فوق سحاب الجمال. لكن الكاتب، وعلى عكس المألوف، عطّل لاوعيه واعتمد الوعي، ليستحيل نصه كتلة من المفاهيم والمصطلحات النفسية التي أتخمته متدخّلا من دون مسوّغات عبر ضمائر المخاطب والمتكلّم، فخلط بين نص روائي ومحاضرة علمية، إذ تنحّى السرد كثيرا وتوارى الحوار الا في حالات قليلة، لصالح التبئير المباشر من الكاتب وليس من الراوي الذي لم يخلق شخصيات تصل عفوًا الى مرضها، بل خلق أمراضًا عصابية وذهانية وجعل لها قوالب بشرية ليظهر براعة علمية، فاستحالت الرواية حقلاً بعيداً عن ايجابية المشاركة الإيجابية للمتلقي، بل ارتفع فوقه بطريقة نرجسية، محلّلا ما ينبغي ان يحلّله القارئ، عارفًا وعليمًا بكل شيء، حتى صارت الرواية كمرجع لعلم النفس التربوي والعيادي والأدبي. ولم تظهر الفنية الا في المقطع الأخير حين جعل النهاية مفتوحة وغامضة ولكن بطريقة متصنعة نظرا الى ما اقترفه الكاتب من هفوات فنية في باقي المتن، فلماذا انعدم علمه المطلق في النهاية؟