‘بائع الهوى’ تنجح في تصوير وهم الثورة التونسية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

 هيام الفرشيشي

 

“بائع الهوى” رواية لحكيم بن رمضان صادرة عن دار الفارابي ببيروت، في 326 صفحة, وقام برسم لوحة الكتاب الفنان طارق السويسي، وهي لوحة تحتفي بالحياة وبالمغامرة من خلال ألوانها الحادة وبالانسان عبر رسمه من خلال أشكال هندسية لتستحيل الى تجسيم هندسي لوني للانسان من الخارج كما يتعقبه الواقع في رصد ردود أفعاله.

 

يشكل فضاء الرواية رقعة شطرنج تتسع لجولات لعب بين أطراف متنازعة متصارعة: بين نظام قائم في تونس وفئات من الشعب المطحون في الأماكن المهمشة في سيدي بوزيد والرقاب وتالة والقصرين والساحل امتدادا إلى الجنوب. بين حيدر قنديل الدليل السياحي لاعب الشطرنج المبتدأ والسائح الروسي مهيلوف فيدوفسكي لاعب الشطرنج المبدع. بين حيدر قنديل واستاذه في الجامعة رجب القصيبي الذي افتك بحبيبته وساهم في رسوبه.

 

ولكن أن تنجح فئات ضعيفة في إسقاط نظام دكتاتوري، وأن يتمكن حيدر من كسب الرهان بعد سلسلة خسارات، وان يسترجع علاقته الحميمية مع حبيبته غزوة أيام زواجها بأستاذهاعند القيام برحلة سياحية للجنوب في شهر العسل يكون هو دليلها السياحي، فإن طبيعة الرهان هي التي تستدعي الانتباه. فاللاعبون أطراف ذكورية والرهان تدفعه المرأة بطريقة مهينة سواء كانت امراة رمزية وهي الوطن تونس التي وقع حرقها وتخريبها، او ماريا عشيقة فيدوفسكي التي ضاجعها حيدر على مرأى من عشيقها بطريقة فجة ومهينة كشرط متفق عليه، أو غزوة التي تركها زوجها البروفيسور رجب القصيبي بطريقة تبدو قصدية حين يتناوم، فتعاشر حيدر خفية عنه, لكي لا يظهر لها عجزه. وبذلك يتحول حيدر الى بائع هوى كان قد طلق الشعر والسياسة بعد خروجه من الجامعة، وتحوله الى دليل سياحي. فالواقع المتعفن حول أحلامه بالحب الى مجرد مشبع نزوات، وحوله من مشاغب سياسي في الجامعة الى مجرد مخرب.

 

وقد مارس الكاتب لعبة التحويل / فلعبة الشطرنج تتحول الى صراع بين متمرسين في اللعبة وبين المبتدئين، ولكن ان تقع إزاحة الماسكين بأطراف اللعبة عبر تهريب الزعيم الدكتاتور او قتل فيدوفسكي بطريقة غامضة بعدما خسر الرهان، فشروط الرهان اكثر مرارة من طعم النصر فهي قاسية وغير انسانية.

 

لهذا تميزت أحداث الرواية برصد عالم حيدر قنديل المتوتر الباحث عن نشوة عابرة في عالم الواقع المعقد الذي تتحكم فيه شروط من يمثلون القمع وهتك كرامة الانسان، المحقق الدالي جمر، الاستاذ الجامعي رجب القصيبي والروسي فيدوفسكي. فالنصر وجه مقنع للهزيمة بل يبشر بهزيمة أمر، هزيمة الانسان أمام ذاته وامام القيم التي آمن بها ولكنها سقطت جميعها عند اختباره.

 

ولئن سعى الكاتب إلى تعدد الأصوات والشخصيات في الرواية ليبدو في صورة المحايد عند تصويره للواقع فقد نسج لنا شخصية الطاووس التي تلاحق حيدر قنديل في الأمكنة التي يرتادها عبر رسوله صاحب القبعة السوداء طالبا منه ان يعود للشعر ليكتب عنه قصيدة مدح مقابل ان يحقق له الشهرة والدعاية. فحيدر لم يطلب منه ان يتحول إلى بائع هوى فحسب بل إلى بائع كلمات في واقع يتحول فيه الضعفاء الى مجرد تابعين.

 

وكأن الكاتب هنا يسخر بطريقة أو بأخرى من الثورة التي لم تكن ثورة فكرية ولا ثقافية، حتى المثقف أو المبدع فقد فقد حلمه منذ زمن ونزع عنه اقتناعه الايديولوجي ليمشي في جوقة من يدفع، وهذا اقرار ضمني بان العلاقة بين السلطة والمثقف لن تتغير بعد الثورة فلن يظل المثقف غير تابع.

 

الرواية صدرت بعد الثورة التونسية بقليل في 2012 فقد نجحت في تصوير وهم الثورة وطمس الحلم عبر مكاشفة نفسية رهيبة يملك مفاتيحها المكنى بالطاووس الذي اقتاد حيدر الى عالم سفلي بمثابة نفق مظلم تتأجج النار في ركن مظلم منه وقد يكون الحاكم الجديد الذي يعيش في الظل وبيده مفاتيح اللعبة السياسية، والذي يعرف من يدعو إلى غرفه المظلمة.

 

أما الامكنة في هذه الرواية فهي أمكنة نفسية، خاصة تلك التي عاش فيها حيدر قنديل واتسعت لاحداث الرواية التي تدور في نابل اونيابوليس الرومانية، وهي مدينة مفتوحة على البحر تتميز بالرطوبة حيث “كان يهيم بالبحر ويطيب له العوم تحت الرذاذ”، وهو مكان مفتوح على المتعة الحسية: “كان حيدر يفضل الإصغاء لموج البحر والفناء في عظمة ايقاعه”، ومن مكونات هذا الفضاء الأماكن التي يرتادها حيدر قنديل مع أصدقائه حانة على ضفاف الشاطئ المهجور، والكازينو القائم على اعمدة “عريضة ومستديرة وحمراء من دون تاج او قاعدة مزخرفة، اما الجدران فقد كانت بهذين اللونين، والأبواب كبيرة وعالية وخشبية ومنقوشة”، ومع ذلك فالمكان يثير فيه القلق والتوتر لانه مكان للعب القمار والشطرنج والبوكر، فهو مكان لعبي قلق.

 

الى جانب ذلك فيبدو ان البطل لا يستطيع العيش الا في الاماكن الواسعة المفتوحة “كان حيدر قنديل يشكو من رهاب الاماكن الضيقة، وكلما اراد تحدي قلقه الا وازداد فزعه، ولكنه كان يحاول من حين إلى آخر مواجهته”، وذلك ما يبرر اختيار الكاتب بأن يصبح حيدر دليلا سياحيا اذ يتنقل ايضا في امكنة تاريخية حضارية من شمال البلاد الى جنوبها، حيث الآثار الرومانية في الشمال من مسرح قرطاج الى متحف باردو والقرىة البربرية في الجنوب حيث البيوت المنحوتة بين سفوح الجبال والمقسمة بتخطيط معماري، والمدينة الجنوبية الشرقية المبنية بيوتها من الطوب بها بصمات العرب, وبين الواحات.

 

في مقابل هذه الأمكنة المفتوحة، فهناك أمكنة مجهولة منسية ضيقة من خلال ضيق أفقها وانعدام فرص الحياة الكريمة في بيئتها الطبيعية المتشعبة القاسية، انطلقت منها شرارات الانتفاضة “أحياء مجهولة في تلك المدن المنسية” المكناسي منزل بوزيان، تالة، القصرين، دوز. الرقاب التي صورها “مدينة معزولة. الطبيعة فيها قاسية والجبال فيها عاتية والشتاء لا يرأف بقلوب الصغار. لم تكن هذه البلدة مدونة في مخططات الحكومة للعشرينية المقبلة، فهي مثل ناسها منسية”.

 

كما يتحدث الكاتب عن أمكنة رمزية تؤم أصحاب السلطة “على الحائط بقعة حمراء قاتمة تتوسظ السواد، وتتوسطها بدورها نقاط ذات حمرة كجمر من الرماد، ومبعثرة بين الوان داكنة ومساحات غامضة كسحب منتشرة في الظلام”، او تصميم بيت الطاووس “قاعة شاسعة مكعبة الشكل داخل مكان كأنه كهف ذو ظلمة قاتمة لا ينيرها الا بصيص نور من نار موقدة ومعلقة بين أركانها، ولا تظهر فيها شبابيك ولا باب”.

 

وقد قسم الكاتب الرواية الى 68 فصلا، وجاءت الفصول مركبة، تتخللها فصول الحراك الثوري في تونس مع كل تصعيد في الاحداث. وتقوم على التقطيع بين التحقيق في جريمة القتل الغامضة، وبين حكاية حيدر قنديل في الجامعة وفي نيابوليس وفي علاقته باصدقائه شادي والهاني وعاشور, وذلك لتعقب حيثيات الجريمة في واقع سياسي متصدع.

 

فلا يسرد الكاتب الاحداث دفعة واحدة بطريقة خطية وانما يتحكم في زمن الخطاب ممسكا بزمن القصة الذي يعرض مسار الحكاية، مؤطر بزمن الكتابة الذي سبق الثورة بقليل وامتد الى حين قيامها، فقام زمن الخطاب على الاستباق الذي ينفتح على الحاضر ويعود الى الماضي القريب عبر حلقات سردية متتابعة، وبذلك تحول الواقع الى استعارة لنص فني إنساني لا يرصد علاقة الذات بالمجتمع فحسب بل علاقة الذات بالآخر.

 

وعلى الرغم من أن كاتب الرواية أخصائي نفساني وباحث في علم النفس السريري في باريس، فقد قام بتصوير شخصياته من الخارج من خلال ردود افعالهم، بعيدا عن اساليب الفن التعبيري التي ترصد الخيالات والتهويمات الكامنة في النفس، وصور أفكاره أطر وأشكال هندسية تحاكي التكعيب في الفن التشكيلي. وما الأشكال الهندسية إلا تحويل فني لنقاط التفكير

 

المصدر:ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى