باكير: أتمنّى ألا أُتهم بالخيانة، لكني أنحاز إلى الموسيقى أكثر من الشعر أحياناً

الجسرة الثقافية الإلكترونية-حاوره:محمد المعايطة

 

لعل في الآونة الأخيرة، تمردت عدة أسماء جديدة على المشهد الشعري والثقافي، ضاربة بكل تقاليد هذا الوسط عرض الحائط، كاسرة كثير الأسئلة، وقد أخذت مكانها في هذا المشهد، حيث لم يكن بجعبة الجيل القديم غير رفع القبعات والإنحناء لهذه المواهب الجديدة، التي لا يملكون غير ذلك أمامها، ولعل فوزي باكير من أبرز الأسماء التي كان بمقدورها أن تُثبت نفسها جيداً وبشدة، وكان لنا معه هذا الحوار:

س1: ما السؤال الذي زاده الشعر على أسئلة فوزي باكير ..؟

أفضل عدم حصر الشعر في كونه "سؤالًا" فقط، هذه واحدة من أدواته ربّما، لكنّ لا يُمكن أن نعرفه من خلالها. من الأمور التي استخلصتُها حديثًا عنه، هو فعلُ الإيذاء الذي يمارسه، وهذا فعلٌ جماليٌّ بامتياز. لا أتحدث عن إيذائه "السياسي" مثلاً، بل إيذائه للقارئ نفسه. تلك الصدمة التي تجعل المتلقّي يضربُ بكفه على جبيته، وربما يشتمُ الكاتب على سبيل الامتداح من شدّة ما أثّر النصّ فيه وأصابَه إصابة دقيقة وبليغة. أجملُ الشعر، الأكثر قدرةً على الإيذاء، باعتقادي الشخصي طبعاً.

س2: هنا.. هل تأخذ الدهشة شكل الايذاء..؟

الدهشة هي المفهوم العام، الإيذاء يتفرّع منها، وبرأيي إنه قابلٌ أن يكون هي بالكامل.

 

س3: كيف تغير شكل الدهشة في قصيدة النثر..؟ وهل أصبحت دهشة الشعر في قصيدة النثر اقل صخباً..؟

سؤالك يفترض وجود دهشة سابقة، وهي، ضمنيّاً، في قصيدة التفعيلة. الدهشة في قصيدة النثر ليست صخباً ولا أكثر صخباً، المقارنة لا تتأتى بينهما بهذه الطريقة، إن صحّ أن نُقارن أصلاً، دهشة قصيدة النثر تكمن في سُرعة التصويب وحسنِه ودقّته، بأقل عدد ممكن من الكلمات، ومن دون أن تتكئ على أي مُحسّن كالإيقاع الخارجي والقافية، فهي عارية تماماً، وبلا أحد سواها، مهمّتها أصعب من غيرها في تحقيق الدهشة.

 

س4: في هذه الحالة … دعني أضع صيغة أخرى للسؤال ….

هل الدهشة في قصيدة النثر اكثر عمقاً ودفئاً..؟

الدفء لا يتأتى من العُمق بالمُناسبة، الدفء يكمن في حميمية المشهد نفسه، ودرجة حرارة العبارات والصياغات. وهذا يعود لقدرة الشاعر على تقديم قوله، بغضّ النظر، كان تفعيلة أو نثر. وأكثر عُمقاً؟ لا أعرف، لكن ما أعرفه هو صعوبة الأمر على قصيدة النثر، فكما أخبرتك، هي وحيدة تمامًا.. مثل فزّاعةٍ في منتصف الصحراء. عليها أن تستدرجَ الطيور ثمّ تخيفها!

بمعنى، عليها أن تجذب القارئ، ليقع في فخاخها الجمالية.

 

س5: هل هرب الشاعر الى قصيدة النثر هروباً من سطوة قوالب التفعيلة..؟

هل هو هروب؟ أم تحرُّر من سطوة التفعيلة والتاريخ الذي أنتجها أصلاً؟ المسألة بسيطة بنظري.. مصادر إيقاع التفعيلة هي الأصوات التي كان يسمعها العرب قديماً، كطرق السيف، وركض الخيل وغيرها.. نحن الآن نستمع إلى كتلة عشوائية من الأصوات، بين صوت المِصعَد، والسيارة، و.. و.. إيقاع الحياة تغيّر بطبيعة الحال.

ولن أخفيك، لستُ معنيّاً بخوض هذه المسألة أساساً، الشعر هو الشعر، كما يقول درويش، ليس بحاجةٍ إلى بُرهان.

 

س6: يذاع كثيراً، أن قصيدة النثر قامت _بغير قصد_ بخلط الصالح والطالح، والفضاءات الإفتراضية ساعدت كذلك على هذا الأمر، الى أي مدى ترى صحة هذا الكلام..؟

للتوّ أنهيتُ كتابة مقالةٍ عن هذا الأمر، لن أنشرَها كإجابة طبعاً لأنها حصريّة! لكن هذا الكلام صحيح. المسألة لا تتعلّق بنوع القصيدة، أي ليس لأنها قصيدة نثر حصل هذا. المسألة باختصار أن هناك من يريد أن يكتب، أن يجمع الكلمات ويُلقيها، وهذا يحصل بوجود قصيدة النثر وبدونه.

 

س7: لكن قصيدة النثر أعطت وهم السهولة لتحررها من ضوابط القافية والوزن، جالبةً _وهذا ليس اتهاماً_ الكثير من الدخلاء على الشعر، ألا ترى صحة في هذا الطرح..؟

القصة خالية من الإيقاع، المقالة خالية من الإيقاع، الرواية كذلك. تعال، فلنتحدث عن الرواية. نحن نعرف جيدا أنّ هناك روايات تحقّق مبيعات مهولة في الأسواق، وهي مجرّد حكايات تعتمد على الجنس أو الادّعاءات الجندريّة وغيرها من الأمور التي تعمل على استسهال القرّاء واستغفالهم. كل فن يقع تحت سطوة دخلائه أحياناً، وهذا أمر طبيعيّ.

 

س8: باقترابك الكبير من الشاعر الأردني زياد عناني، ومروره بوعكته الصحية _نتمنى الشفاء له_ كيف ترى بأن العناني ترك فراغاً في الوسط الأدبي والشعري..؟

زياد.. سأقتبس منه مقطعاً، يقول: "ما من مرّةٍ/ لم أجدها/ جالسةً في كتلة السواد/ وتنتظر/ إنها أمي التي دربتها المقابرُ على ذرف الدموع/ وحين تورّطت في الضحك/ تمزّق وجهها". ما هذا الإيذاء الجماليّ..؟ وقِس على ذلك في شعر زياد، وتذكّر ما قلناه عن الدفء وحرارة النص. وبلى، أستطيع أن أقول إن زياد هو الأقدر على هذا الإيذاء وذاك الدفء.

 

س9: هل يجب أن نحاسب الشاعر إنسانياً، بجانب الحكم الأدبي والشعري، أم هذا مسألة شخصية، ولا يجب محاسبة الشاعر سوى بنصه الشعري..؟

ببساطة، شاعر يحبس عصفوراً في قفص، أو يهتف لطاغية، أو يسيء لعائلته، أو يمارس سلوكيات غير إنسانية، كيف لي أن أصدِّقَ قصيدتَه في تمجيد الجمال، مهما كانت عالية فنيّاً؟

 

س10: مجاز للشعر العربي، وانت من مؤسسيه، لماذا توقف..؟

لم يعُد لدينا مُتّسعٌ للعمل الجماعيّ. عوامل كثيرة تتدخل في ذلك. أقلّها أن العديد من المؤسسين المشاركين فيه، كل واحد استقرّ خارج الأردن، بحثاً عن رزقه.

 

س11: كيف ترى نصك الشعري بعد "تلفت النهر"..؟

تميل النصوص إلى الابتعاد عن الإفراط في الذهنية التأمليّة التي اتسمت بها مجموعتي الأولى "حين تلفت النهر"، وتتناول اليومي والمُعاش أكثر.

 

س12: هل من الممكن أن نعتبر "اليومي والمُعاش" طابعاً في النص النثري، وهل من الممكن أن يصر قالباً من كثرة تكراره..؟

لا، لأنه مستمرّ ما حيينا.. ويتقاطع، إنسانيّاً، مع مُختلف المتلقّين وجنسيّاتهم.. هو ليس قضيّة مؤقتة أو "مُناسباتية" وجاهزة.. على العكس.. هو حقل غنيّ ومليء، لكن اقتناص ما هو متفرّدٌ فيه، ليس سهلاً.

س2: برأيك هل الواقع قادر على احتمال النص الشعري..؟

سأردّ بسؤالٍ، وهو إجابتي: هل النص الشعري قادر على احتمال الواقع؟

 

س13: ماذا تفعل الموسيقى بفوزي باكير..؟

الموسيقى؟ اختزلها الكثيرون بعبارة، أجدها سطحية، وهي "غذاء الروح".. حسنًا، الموسيقى ربّما هي الشيء الوحيد الذي قد يُنقذ شخصاً من الانتحار، هي الإجابة على أسئلة الجدوى.

جدوى الحياة؟ إنها الموسيقى يا عزيزي.

أتمنّى ألا أُتهم بالخيانة، لكني أنحاز إليها أكثر من الشعر أحيانًا.

 

س14: من ما كتبت، ما أقرب النصوص الى قلبك..؟

هو آخر النصوص التي كتبتها، "عن الوحدة وزوجاتها".

لماذا..؟ ربّما لأنّه، كما يفعل الشّعر كلّه دائمًا، مهما خذلته وابتعدت عنه، حين تعود إليه وأنت بحاجته، تجد ذراعيه مفتوحتين ويستقبلك، ولا يخذلك، إطلاقًا.

ومن نص "عن الوحدة وزوجاتِها":

أيُّ سُخريةٍ هذه

حين تتعطَّل نقَّالةُ الموتى

وهي في طريقِها

إلى جثَّتي..؟

****

تُغيظُكَ الوحدةُ أكثر

حين لا تجد أحدًا يسخرُ منكَ

لأنَّك ظننتَ الرّيحَ التي تقرعُ بابَكَ

لصًّا.

****

كأعمىً

يحاولُ أن يعرفَ كيف يبدو الليل

لعلّهُ يُؤوِّل ما لا يراه؛

أبحثُ في قواميس البياضِ

عن الفرقِ الباطنيِّ

بين العَتمةِ

والظّلام.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى