‘برتقال مرّ’ المذاقات المؤلمة للحب والأنوثة

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

ماهر عنجاري

 

هناك على ناصية حلمه يعمل بدأب وروية، إنه المخرج الحكواتي المغربي حكيم بلعباس، خجول وهادئ لكنه نهر جارٍ، يحفر مجراه بمائه المتدفق الهادر، لا يوقفه شيء، يجود علينا بجديده المنتظر، ليضيف بطريقته الخاصة الكثير إلى عالم السينما.

في إجابة حكيم بلعباس عن سؤال “العرب” حول الطريقة التي يعتمدها عندما يخرج فيلما وثائقيا خياليا، وهل في ذلك اختيار بوعي لهذا القالب أم هي طريقة للهروب من صنع فيلم روائي، يقول حكيم بلعباس، إنه لا يدري بالضبط، فالأمر ليس هروبا ولا خيارا، ويضيف “يبدو فقط أني أدركت في محطة ما من محطات عملي أنه من المستحيل بالنسبة إليّ أن أعطي صورة مفبركة عن الأحداث وعن الشخصيات؛ عملي هو توصيف لحقيقة ما”.

 

ويسترسل موضحا: على سبيل المثال، يتمثل أفضل تعريف لأداء الممثل في غياب الأداء نفسه، وبالتالي فإن الممثل حين يعيش اللحظة المتخيلة فإنه يتلبسها بعمق حقيقته هو ذاته. وأنا كثيرا ما أحاول التمييز بين التمثيل الحقيقي وبين المفتعل. علمني ذلك معلم المسرح الكبير صاندي مسنر، الذي عرّف “التمثيل” بانعدام التمثيل.

 

وعن مدى ارتباط هذا التعريف بحالة زينب عندما تتكلم مع حبيبها هاتفيا في فيلم “محاولة فاشلة لتعريف الحب”، قال بلعباس “إنه نوع من الاستيعاب، والمشهد كان أكثر صدقا من لو أن أفرض عليها نصا مكتوبا”.

 

ويؤكد أيضا بلعباس أن المشهد الذي تتحدث فيه زينب مع والدتها، لم يكن مخططا له، بل كان حكيم يفكر في تصوير شيء آخر، ولكن بالصدفة يرن هاتف الممثلة، فتستغرق في حديث تطابق تماما مع ما كان يبحث عنه. لذلك ترك الكاميرا تدور وتلتقط تلك اللحظة العفوية، وللسبب نفسه سجل أيضا الصمت خلال هذه المحادثة.

 

يضيف بلعباس: لقد استغرق مني الاستعداد لفيلم “محاولة فاشلة لتعريف الحب” خمس سنوات. أقابل الناس، وأحضر نفسي للإبحار.

وهكذا، التقيت بالعجوز وزوجها (المشهد الذي كانت تقوم خلاله بغسل زوجها في الفيلم)، أخبرني الناس وقتها أنهما أعرق زوجين في القرية، ففكرت أنه عليّ القيام بشيء ما مادام فيلمي يروي قصة حب. تابعت تلك العجوز وهي تنظف زوجها بمحبة وحنان، واحتفظت بالمشهد.

 

المشهد في الفيلم لا يوضح العلاقة التي تجمع العجوز بهذا الرجل، هل هو زوجها، أخوها أم عشيقها؟ ما ينبعث من الفيلم هو الحب، والحب لا يعرف الحدود، فكان لا بدّ من سؤاله: ما يعني أنك تعتقد أن لا حدود في الحب، فهل تنتفي الحدود برأيك بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي. وبلا تردّد يعترف بلعباس أن الحب لا حدود له بين الرجل والمرأة، ولا بين الأخ والأخت، فهناك فقط المحبة، كذلك الأمر في عالم السينما، فلا حدود بين الفيلم الروائي والفيلم الوثائقي، هناك فقط الحقيقة.

 

 

راو صامت

 

القريب من حكيم بلعباس الإنسان يتعجّب من قدرته على صنع أفلام وثائقية وهو في حياته العادية قليل الكلام، عن هذا يقول بلعباس إنه يسعى دائما إلى الوصول إلى صلب الأشياء، وبسرعة. وهو يعتبر نفسه كذلك مثل الراوي، يغوص مباشرة في التاريخ، يروي ليواسي نفسه قليلا.

 

يستبعد بلعباس تفكيره في صناعة سينما خاصة به يمكن تسميتها “سينما بلعباس”، معترفا أنّه لا يملك أصلا الإمكانية لتحقيق ذلك، وقال إنه حاول في كل مرة الامتثال للقواعد السينمائية التي تعلمها في الجامعة ومن الأفلام التي شاهدها ويعشقها، ولكن في النهاية يرتفع عنده الحدس، ويشعر بأن شيئا يتحداه، فيقوم بتجريب شيء مختلف لا يعرف نتائجه، لذلك فهو لا يصنع أفلامه إلاّ على طاولة المونتاج.

 

يقوم بلعباس بمونتاج أفلامه بنفسه، حيث يقول مبينا: لو كان لديّ مونتير لبقي محتوى الفيلم، في أغلب الأحيان، طريح الأرض. مثلا بالنسبة إلى مشهد ولادة الخروف في فيلم “محاولة فاشلة لتعريف الحب”، فإن أي مونتير سيقول إن هذا المشهد ليس له علاقة بالفيلم، لا من قريب ولا من بعيد، ولكن بالتأكيد هذا المشهد له علاقة بكل الفيلم، الأمر نفسه بالنسبة إلى اللقاء مع المتشرد، المشهد الذي تلتقي فيه زينب بالمرأة العجوز، وكذلك مشهد المطر.

 

ويواصل المخرج الحكواتي: أودّ لو كانت هناك يد خفية تساعدني حين أكون قد حضرت نفسي نفسيا وعاطفيا، فمثلا مشهد المطر في فيلم “محاولة فاشلة لتعريف الحب” يحتاج إلى أجهزة ومعدات مكلفة جدا، ولكن السماء ساعدتني حينها، وأمطرت في ذلك اليوم.

 

يعترف بلعباس أنّه يحضّر أفلامه مسبقا، إلاّ أن لديه الكثير من الحظ في تعامله الدائم مع فريقه الذي يصاحبه منذ سنوات، ويفهم جيدا طريقة عمله، ويشرح قائلا “مدير تصويري فرنسي، لا نتكلم كثيرا، ولكنه يعرف بالضبط ما أريده. وحتى هو لا يعرف أبدا متى ننتهي من الفيلم، النتيجة النهائية له، رغم أنه قريب من رؤيتي السينمائية، فالتركيب يتم دائما بطريقة تدريجية”.

 

يحاول بلعباس في عمله أن يتقيّد قدر الإمكان بخطوات العمل، قراءة السيناريو، استكشاف الأماكن، التقطيع، تصوير المشاهد، مشهدا بعد آخر، لكن البنية الأصلية التي يعتمدها سرعان ما تصبح ثانوية.

 

 

شخصيات عادية

 

عن علاقته بالأساطير والخرافات يقول حكيم بلعباس إنه نشأ في مدينة روحية، بوجعيد في المغرب، مزودة بتاريخ صوفي عريق متمثل في سيَر قدّيسي المدينة. قصة إنشاء المدينة نفسها قصة رائعة، كان هناك رجل بدوي، صوفي، اسمه بواديب شركي، جاء ليستقرّ في المنطقة التي كانت عبارة عن غابة كبيرة، فاكتشف أن المياه كانت شحيحة. وحين جاء وقت الصلاة لم يستطع القيام بفريضة الوضوء، فانتابه غضب شديد، وضرب الأرض بعصاه، وهنا تفجرت المياه، وسمي المنبع باسمه “ينبوع الشيخ”.

 

يقول بلعباس: في هذه المدينة، تعودت على التردد على الحلقات، (تلك الحلقات الشعبية التي تروى فيها الحكايات، والتي اختفت في أيامنا هذه)، والاستمتاع بملاحم عنترة، وسيف بن ذي يزن، وعلقمة وسيدنا علي، كانت هناك، خاصة، حكايات الجدات، حكايات لطالما سكنت خيالي، وأذكر كم كنت أطالب بأن تُعاد على مسامعي، حكايات الجازية بنت منصور، التي عبرت السبعة بحور، على ظهر سبعة صقور، بحثا عن أبيها المفقود.

 

هكذا ترعرع ضيفنا مع الحكايات والخرافات، كما درس الميثولوجيا، وأجرى بحوثا حول الأدب الشفهي مثل “ألف ليلة وليلة”، حكايات “الإخوة جريم”، والقصص الهندية الأميركية.

 

ويختم بلعباس قائلا “ربما كان سبب اهتمامي بالأساطير منبعه محاولاتي لرؤية الأساطير حولي، وأظن أن ذلك أجمل تعريف للسينما، إنها الاستعارة… ولذا كثيرا ما أحاول خلق أبطالي وشخصياتي انطلاقا مما هو عادي، أو أقل من العادي”.

 

المصدر: العرب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى