«برتقال مرّ» لبسمة الخطيب.. بؤرة الماضي

الجسرة الثقافية الالكترونية

*علي نسر

المصدر: السفير

 

في روايتها «برتقال مرّ» (دار الآداب)، تحمل الكاتبة بسمة الخطيب سوطها الروائي، ممزوجًا ببعض مهارات فنّ المقالة، لتحاكم، من خلال بطلة مأزومة، ماضيًا تركها تصارع الحياة بندبة أصابت روحها قبل إصابة الجسد، وإن حاولت الكاتبة بطريقة ملتوية ومموهة أن تكشف عن ندبة جسدية في عنق الشخصية الأساس، جعلتها على أرض غير صلبة وفي حالة اهتزاز دائم.

يشكّل الماضي نقطة ارتكاز البطلة، إذ تجعل منه بؤرة سردية، ليشكّل عصب الرواية الأساس شكلًا ومضمونًا، فكانت ذاكرة الماضي أقوى من ذاكرة الحياة القريبة (…برغم ذاكرة طفولتي القوية، المتفوقة على ذاكرتي القريبة بما لا يقاس ص150). وبهذا نجدنا أمام رواية زمنٍ وإن أحالنا العنوان سيميائيًّا الى المكان حيث الأرض أو البساتين، لكن البرتقال المرّ شكّل زوّادة البطلة منذ الطفولة حتى المراهقة وصولا الى العقد الثالث من العمر.. كل هذا جعل من شخصية البطلة امرأة تترنح فوق أرجوحة الزمن ومراحله الثلاث، محاولة ان تدثّر اسمها لتعلن عنه في النهاية فنحار إن كان اسمها الحقيقي أم الاسم الذي تتمنى ان يناديها به البطل، خصوصًا أن خصائص عديدة في حياتها جعلت منها عصابية تعاني من عقدة النقص التي وصلت الى مرحلة الدونية، كشكلها الجسماني وعلاقتها بلقب أبيها ومهنته وتذمّر أمها منها بشكل لافت، كما أقحمت الكاتبة شخصية ليس لوجودها من أهمية سوى انها مهّدت بطريقة المواربة الى عقدة الاسم وهي شخصية (غزالة) التي كان لاسمها سبب رئيس في تدهور حالتها النفسية والتي انعكست مرضًا جسديًّا أدّى إلى موتها بعد انعزالها عن الناس، ولم يكن لها من دور يذكر في سياق النص والمسيرة السردية.

إنّ نزعتين تتقاسمان انتماء الشخصية الأساس إلى الماضي، الأولى: نزعة حقد وكره لأناس أسهموا في خلق الندبة/ العقدة، كالحبيب الآني والسابق والأم التي لم تعرف البطلة سبب كرهها لها ومعاملتها بطريقة قاسية، فجعلتها تسقط على نفسها مسؤولية هذا التعامل عبر جلدها لنفسها وكره بشاعتها وكأنها تقدّم العذر لمن سحقها وما زال يسحقها (ليلى تلك كانت قبيحة، جعداء الشعر، تعذّب أمّها في أثناء تسريحه، لذا أرسلتها الى جدّتها بحجة ما، لكنها قصدت ارسالها الى الغابة من دون حماية. الأمهات قد يفعلن أشياء أفظع ببناتهن الدميمات. ص98). أما النزعة الثانية فهي مناقضة تمامًا، إذ إنّ الماضي شكّل للبطلة ملاذًا وملجأ تتحصّن بمتاريسه عبر عملية نكوص وارتداد سيطرت على النص كلّه، ما يشير إلى تجذّر مرحلة الطفولة والصبا برغم برتقالها المرّ في مخيلتها وقلبها، ما جعل النص مثقلًا بمفاهيم ومصطلحات طفولية استعرضتها البطلة بأسلوب فيه من الفرح والحزن الكثير، لكن هذا الاستعراض جاء شبه انفلاشي وعشوائيًا ومن دون مناسبات في أحيان كثيرة وكأن الكاتبة تدلق دلو الأيام السابقة دفعة واحدة ولا تريد ان تضحّي بجانب ولو بسيط، ما ألحق التصدع في بنية الحبكة مرات طفيفة، لكن الكاتبة كانت ذات قدرة لافتة على إعادة جمع الشمل للمتتالية السردية.

وعلى الرغم من محاولتها التخلص من الماضي ومحطّاته القاسية والقاتلة عبر الأحلام بتغيير مجرى الحياة وتعديل سكة مشوارها (لا شك سأتحوّل الى حورية ذات يوم، وسأغطس نحو عالم أفضل وأرحب، وإلا لن تكون عدالة في هذا العالم ولن تكون جدوى للحياة نفسها. ص37). إلا أن تشاؤمها يغلبها وتعود لتترّس بمعاقل ماضيها وتتجنب الوصول الى الغد، كي يظل لذة مستحيلة، وكيلا يكون صدمة جديدة. (لو أنّ الغد لا يأتي كي أبقى أحلم بقدومه. ص60). لكن هذا الماضي وبعض جوانبه الحسنة سرعان ما يتبددان بعد اللقاء بالحبيب أحد أبرز أركانه، لتخرج من براثنه حالمة بحياة أفضل شبه متغلبة على أزماتها، ولأنها مكابرة فقد عمدت الكاتبة الى إطلاق هذه الصورة التفاؤلية، في نهاية الرواية، بأن يعلن عن ذلك برغم سيطرة صوت البطلة الراوية في معظم فصول السرد، (لا جدوى من ان تتمنى تغيير الماضي، لكن قد يمكنها صنع القادم من الأيام؟ لماذا لا تكون لها طفلة تلبسها الجوارب والفساتين…. وتسرّح شعرها بحنان وتحكي لها حكايات لها نهايات سعيدة. ص292).

بين الماضي وما فيه من جوانب فرح وحزن، وبين الحاضر المتمثل بالزمن السردي الراهن والذي لم يستغرق وقتًا طويلا، تقدّم الكاتبة غير موضوع يستحق ان يكون رواية، كالحرب اللبنانية وتفشي ظاهرة التدين الأعمى، بالإضافة الى السيطرة الذكورية والتعامل اللاإنساني مع المرأة في موضوع الزواج والجنس.. كل هذا لم ينعكس عبر الفكرة والمضمون فحسب، إنما عبر الفنية والشكل، إذ سيطر الماضي باسترجاعاته الخارجية القريبة والبعيدة التي امتدّ مداها الى أكثر من ثلاثين عاما حيث ولادة البطلة وما قبلها، وكان اتساعها صفحات الرواية كلها تقريبا ما عدا بعض الإطلالات للزمن الراهن السائر بطريقة كرونولوجية يشد اواصره التخطيط للموعد مع الحبيب القديم الجديد. وهذا كلّه ممسوك بيد صاحبة الحكي والتبئير ذات الصوت الأحادي المهيمن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى