«بريد الغروب» لأحمد علي الزين.. الاغتصاب والمرثية

الجسرة الثقافية الالكترونية
عندما قرأت رواية صحبة الطير، الكتاب الثاني من الثلاثية، كتبت عنها بعض الملاحظات التي لم يتسن لي نشرها. ذلك أنني أحياناً تراودني خاطرة : لمَ أحشر نفسي في النقد الأدبي أيضاً؟
لكن لا يمكن لي أن أتغاضى عن حسن ظن الصديق أحمد بحسي الأدبي. على كل حال انا من مدرسة الاقتصادي شوماخر او شوماشر، بحسب لغتنا الثانية، عندما يكتب في كتابه البست سيللر small is beautiful متسائلاً:
ما الذي يساعدنا على فهم مغزى حياتنا؟ بماذا تفيدنا معرفة قانون الترموديناميك الثاني؟ هل تؤثر عدم معرفته على مجرى حياتنا؟
في المقابل يمكن ان تشكل الاجابة بالنفي عن سؤال من مثل «هل قرأتم اعمال شكسبير؟» شعوراً حقيقياً بالنقص. لا يستطيع العلم ان ينتج افكارا مؤهلة لإدارة حياتنا، حتى اكبر الافكار العلمية وأعظمها، لا يمكن ان تكون اكثر من فرضيات ناقصة للعمل من أجل بحث متخصص، ولكنها غير قابلة ابدا لان تساهم في سيرورة حياتنا وتأويلنا للعالم.
من هنا انحيازي للأدب وللروايات والحكايات على انواعها، ومن هنا حرصي الدائم على تهيئة وقت أخصصه لهذه القراءات الممتعة والتي تنقل لنا حيوات وتجارب شبيهة بنا، سواء في الانسانية او في التجربة المعاشة التي نكابدها، عبر هذه القراءات. لذا أطلع قدر الامكان على انتاج روائيينا من الرجال والنساء، ومن بينهم أحمد على الزين.
ما الجديد في هذه الرواية بريد الغروب بعد سابقتها صحبة الطير؟
ففي صحبة الطير تتبعنا عبد الجليل في نجاته من السجن الصحراوي الذي تنطبق مواصفاته على سجون مستبدينا الشائعة وخصوصاً حزبي البعث العراقي والسوري. يصف الزين هذه السجون بلغته الخاصة التي تذهب الى جوهر المشكلة عبر تصفيتها وتحويلها لمعاناة ومناجاة داخلية كبديل عن الوصف الواقعي والتفصيلي.
عندما نجا عبد الجليل من قصف السجن الصحراوي بمفرده مصطحباً معه رجله المشلولة التي تسبب بتعطيلها التعذيب الوحشي الذي يتعرض له السجناء عادة في سجوننا سواء أكانت صحراوية أو في قلب المدن، كما كانت الحال في بغداد مثلاً أيام صدام حسين. رجله تلك التي يجرّها مثل حطبة يابسة… مع ذلك لم يمنعه التيه في الصحراء عن نقل جمالها الأخّاذ بالرغم من وضعه الميؤوس. إذ كيف سوف ينجو مع قليل من الزاد في وضعيته الهشة والمزرية الذي تحول فيها جسده خلال 25 عاماً من السجن إلى هيكل أو إلى مجرد طيف تائه؟
الجديد في هذه الرواية مطلعها الذي يسرد لنا سيرة لهدى كامرأة تعاني في المجتمع الشرقي من الضبط والرقابة اللتان تطالان تحركات جسدها كي لا ينفلت من سلطة العائلة، وذلك بالرغم من انتمائها الى أسرة من بقايا الإقطاع. والغريب ان تربيتها التسلطية تعود الى الأم، اذا افترضنا ان تغييب الاب هو تعبير عن عدم انخراطه في هذا الاسلوب بدليل ابنته من المرأة اليهودية التي تزوجها وماتت والحياة التي وفرها لابنته منها والتي تعطيها كامل سلطتها على نفسها.
على كل سرعان ما يربطها الكاتب برباط الحب بعبد الجليل، ليستكمل سيرته النموذجية للمعارضين في أنظمة الاستبداد وسيرة امرأة شرقية ترفض السجن المفروض عليها. لا تستغرق العلاقة بين هدى وعبد الجليل لا الكثير من الوقت ولا الكثير من الصفحات. تقاطعا معاً كما في محطة قطار ليفترقا. يلتقيان او يلتحمان في إحدى جولات القصف ويسترقان الحب استراقاً و يكون استغراقهما فيه وكأنه جزء من الموت الذي يحيط بهما او نوع من السيطرة عليه. لكن سرعان ما يتعرض عبد الجليل مجددا للتهجير الى تونس مع شتات المقاومة الفلسطينية وحال عودته متخفياً يستعيده النظام الاسدي ويجرجره لسنوات اخرى عديدة في السجون بحيث ينجو منها مرة اخرى بسبب الجحيم الذي نعانيه امامنا في سوريا وتصل نتائجه واصداءه الينا. يكاد يبلغ السبعين عندما نلتقيه مجدداً؛ يعود حاملاً معه ثقل الذكريات. لكن هل عليّ أن أقول ثقلها؟ وهل يمكن احتمال الحياة لولا الذكريات التي يعتاش عليها من سوف يتهجر ويتشتت في صحارى ويعاين القتل والحرق والتعذيب كأنه قدر لا فكاك منه؟
وعلى حد قول غارسيا ماركيز
وللكهول سأعلّمهم أن
الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل
النسيان.
لا خلاص
يعيدنا إذن الى ذكرياته القديمة ومنها الكلب الذي نجا معه في المرة السابقة؛ وهو من كلاب السجن الشرسة؛ لكن إذا صدقنا عبد الجليل تنبع شراسة الكلب من شراسة البشر وليس العكس. إذ أنه عندما يترك طليقاً وبعيداً عن مدربه الجلاد يتأنسن إذا استطعنا القول هكذا أفهم كلمة «تدجين» في مثل هذه الوضعية. على كل حال كانت هذه كل الصحبة التي سترافقه في رحلته قبل أن توصله الأقدار أو الصدف إلى قريته النائية التي نشأ فيها صغيراً قبل أن يشتتهم الديكتاتور الحاكم فينتقلون مع القليل من المتاع على ظهور دوابهم نحو مصائرهم الجديدة كلاجئين في أنحاء البلاد، البلاد التي تحولت الى سكنى ملايين من اللاجئين وليس فقط المئات الذين وصفهم لنا في كتابه. وعندما يصلون إلى شمال لبنان (في المرة الأولى التي تتكرر دون من ملل) هرباً من ذكرى جرجرتهم لمشاهدة حكم الموت على ابنهم اليافع. موت أكثر من وحشي استخدمت فيه الكلاب الضارية الجائعة لنهش لحمه المحصور في قفص وأمام أعين الأهل والصغير الذي سيتعلم باكراً معنى الموت والذل والظلم.
ولن يكون تحوله إلى يساري أو شيوعي حالم وشاعر مفاجئاً… لكن ذلك لن يوفر له مصيراً أفضل. لا فرصة لمصير أفضل في مثل هذه البلاد المرصودة للعنف، سواء كنت يسارياً او يمينياً، فاشياً او ديموقراطيا، مسلماً او مسيحياً.
تماماً كما لن يكون لرحيله مع المقاومة الفلسطينية عن بيروت الى تونس بعد الاجتياح الاسرائيلي للبنان واحتلاله لأول، وآخر عاصمة عربية على الأرجح، لن تكون افضل حالاً ولن تفتح له أي أفق أو أي أمل بالحياة. لا اقول حياة أفضل بل أقصد مجرد العيش. تماماً كما أن الحب لن يكون طريق نجاة ولا مجرد عزاء عن الانوجاد في هذه المنطقة المعرّضة لضروب العنف وآثاره وجميع مستلزماته. فليس لصدفة علاقته ووقوعه في غرام جارته في المبنى القابع في وادي أبو جميل أي أثر لا على حياته ولا على مصيره ولا يشكل خلاصاً له أو لها. هل أراد الكاتب ان يقول أن لا خلاص للبشر!! ولا أمل لهم.
الاغتصاب
من ناحية اخرى وعندما قرأت الصفحات الاولى من الرواية الجديدة، التي بدأت بسرد التجربة التي مرت بها هدى، وهي عبارة عن سيرة «اغتصاب»، قلت في نفسي كم أن حدسه قوياً، فهو استبق مسلسل الاعتداءات العنفية على النساء في الفترة القليلة الماضية في وصفه لمشاعر امرأة لما حدث لها في مثل هذه الحال. لكنني لاحظت شيئاً اضافياً عندما عرفت حقيقة الاغتصاب الذي ينقله، فهو ربما عبر نقله تجربتها اراد ان ينقل لنا، بطريقته المرهفة الحساسة فظاعة الاعتداءات الجنسية التي تحصل على البشر ـ نساء ورجالا واطفالا، في حياتنا اليومية وفي الحرب السورية بطريقة مواربة وقوية. فإذا كانت هدى لم تحتمل مجرد فحص ولو أنه جاء بطريقة فجة وممن تثق بهم، لعذريتها من قبل والدتها والداية التي أولدتها، وعاشت معطوبة في جزء كبير من تجربتها جراء هذا الفحص للعذرية، فما بالنا بما يحصل حولنا يومياً؟ وماذا نقول عن أثر أنواع الاغتصابات المتفشية المستخدمة كسلاح حرب ولجميع انواع الفنون في ممارساتها والتي نسمع عنها حالياً؛ ما أثرها على الضحايا التي لا تعد ولا تحصى؟؟!! ماذا نقول عن مستقبل شعب وشعوب تتعرض لأنواع العنف هذا الذي نعاينه مُعاشاً ومسموعاً ومنقولاً ومشاهداً عبر الشاشات سواء الكبيرة منها ام الصغيرة؟ الشاشات المتلفزة او الافتراضية والفايسبوكية؟
تمتلئ صفحات كتاب بريد الغروب بالرحيل، بوصف أرتال الاجسام المنهكة محملة على ظهور البشر والدواب والدراجات والسيارات مع امتعة قليلة او كثيرة مع اطفال بأسمال مع اهلهم اومن دونهم وذلك كله من وحي المأساة السورية. اللافت في الكتاب وصف المرأة التي نسيت ابنها وحملت بدلاً عنه لفة وجدتها امامها في عجالتها. ذكرتني هذه القصة بقصة صينية كنت اقصّها على أولادي في صغرهم عنوانها «المرأة الغافلة» والتي تحمل ايضا ما يشبه ابنها لكن بسبب غفلتها وعدم انتباهها وليس بسبب مأساة بحجم الكارثة التي تعرضت لها المرأة في روايتنا.
كان قاطعاً افتراض الكاتب لردة فعل الجماعة عندما أبدى لهفة على تركهم وهو بحالته المزرية لأنه بقايا حطام رجل، لمتابعة المرأة من اجل مساعدتها وبرر اهتمامه بأن الطفل ابنه، فما كان منهم إلا ان نسوا ما هم فيه من بؤس وغفلوا عن مأساتهم ومأساة المرأة انتبهوا الى احتمال علاقة الزنى بينهما… وكانت هذه مناسبة لإظهار موقف الكاتب من الذكورية الفجة وتمسك مجتمعاتنا بالشرف بمعناه الجنسي الضيق المتعلق بأعمال المرأة وطريقة تصرفها بجسدها بينما يتم غض الطرف عن أعمال المستبدين الفاحشة وعن انتهاك شرف الشعوب وكرامتها عبر آلاف الطرق والوسائل..
الكآبة
في مثل هذه الأزمنة لا عجب أن تعبر الكآبة صفحات الكتاب، سواء تعلق الأمر بالحياة المعاشة او بالذكريات، بالعمل او الحب، بالحاضر أو الماضي او المستقبل… لكن الكآبة التي سيطرت على بريد الغروب الذي هو عبارة عن مرثية عبد الجليل ومتابعته الى نهايته لونها بعض الفرح في صحبة الطير حيث لم يمنع العذاب الذي هو الضريبة المفروضة من قبل أنظمة البطش، بعض لحظات وأوقات من المتعة التي تنسرب بالرغم من ذلك فتلون الحياة ببعض ألوان قوس قزح وتحمل القليل من المتعة. لكن لحظات الفرح هذه التي تقطعه احياناً تظل هاربة لا يمكن الامساك بها. فلقد ساهمت ربما عودته إلى مرتع طفولته الأولى في شفاء روحه بعض الشيء إضافة إلى الذكريات الموجعة التي سادت الجزء الأول من الكتاب نجد حكاية من حكايات القرى السرية؛ وتحت عنوان بدريّة الندّابة نجد حكاية من أجمل الحكايات عن ولادة طفلة غير شرعية وكيف يتم تبنيها من شيخ القرية مع تلميح خفي بإمكانية أن يكون الأب. وبدريّة بالرغم من ظروف نشأتها (ربما بسببها) كانت تظل في حالة غناء متواصل. تقوم بأعمالها ككل النساء فيما تواصل الغناء… بدريّة المقطوعة من شجرة وجدت في يوم مولدها في المطحنة على حجر الرحى كما قال الشيخ رجب، في تلميح لأبوته لها، ملفوفة مقمطة بخرق بالية. سميت بدرية لأن القمر كان بدراً في تلك الليلة. وفيما تكفلت زلفا تربية بدرية مع ابنتها تكفل رجب برعايتها. فيما تكفل الزمن والتعود على تمرينها على احتمال الدنيا. واعتادت على وجودها مخفية حسرتها من وضعها في مسرب الغناء الذي اخترعته لنفسها.
في الرواية التي بين ايدينا الآن لا مكان لأي متعة، لكن فيها بعض السمات الطوباوية و الدونكيشوتية: مثل تصديه بمفرده ووضعيته الهشة لتخليص المرأة وتخليص الصبية من الاغتصاب فيما بعد.
ربما نجد أيضاً فسحة أمل أو بعض التمنيات بإمكانية خلاص: بعد عبور الجسر الخطر والوصول إلى أمان الدير المعلق أعلى الجبل. نجد هنا ميلاً لدى الكاتب لتحقيق الأمنية ـ الحلم بتحقيق الوئام او الانسجام بين البشر، إذ نجده يؤلف أسرة من شتات المهجرين والضحايا والمتألمين فيلمّ شملهم ليشكلوا «أسرة ناجية». وعندما يودعهم من أجل موته بعد ان يرسم ويخطط لطقوس حفل توديعه الأخير عبر حرق جسده على رأس جبل عال، تاركاً إياهم بأمان.. فليت الأمر يكون كذلك في الواقع، ان يتعاون الناجون من اجل حياة أكثر احتمالاً وعالماً جديداً عادلاً بعد ما نعاينه من كابوس غير سريع الانتهاء.