بشير مفتي روائي الذاكرة المجروحة

الجسرة الثقافية الالكترونية

*منى الشرافي تيم

المصدر: الحياة

 

غالباً ما تتفوق الذاكرة الإنسانية على النسيان، فالنسيان لا يتمكن من محو صورها ونقوشها وكل ما تتركه من آثار في النفس والعقل والوجدان. ولأن الذاكرة الإنسانية هي جزء من ذاكرة الأدب، فقد اعتمد كتّاب كثر عليها في بناء نصوصهم وصوغ موضوعاتهم، فهي وسيلة مهمة يعبّرون بها عن انفعالاتهم ومشاعرهم. وهذه هي الوسيلة عينها التي اتبعها الروائي الجزائري بشير مفتي في روايته الجديدة «غرفة الذكريات» (منشورات ضفاف – بيروت و الاختلاف – الجزائر)، التي اختار فيها أن يعود إلى ذاكرته في المكان المخصص الذي يرتاده بعضهم من أجل النسيان.

يسرد بشير مفتي روايته من خلال استخدام ضمير المتكلم، ويغلب عليها طابع السيرة الذاتية، وقد عمد في مطلع الصفحة الأولى منها، على لسان الراوي عزيز مالك إلى تحديد زمن كتابتها في العام 2010، وكان يبلغ من العمر حينئذٍ خمسين سنة، ومنها انسحب ليستعيد صورة حيّه الشعبي الذي وُلد فيه، وأسرته الكبيرة الفقيرة، ثم ربطهما بالحلم الوحيد الذي رافقه في مراهقته: «كان عندي منذ مراهقتي حلم واحد لا شريك له، أن أكتب رواية». أكد الراوي مراراً عشقه لقراءة الروايات، التي كان يحلّق معها إلى عوالم بعيدة عن عالمه، ووصف إحساسه بدقة عندما قرأ رواية «الجلد المسحور» للروائي الفرنسي بلزاك قائلاً: «غرقت معها كما يغرق عاشق في ملذات عشقه من دون أن ينتبه الى أي شيء آخر من حوله. نسيت الوقت والمكان وكل شيء». وحرص بشير مفتي من خلال حُب راويه للقراءة على ذكر أسماء عدد من الروايات الأجنبية التي كان لها تأثير كبيرفيه: «عندما بدأت أطالع الروايات ظهرت لي تلك المتعة الخاصة التي لم أشعر بها في الصلاة».

يبدأ الراوي عزيز مالك سرده بالرسالة التي وصلته من حبيبته ليلى مرجان بعد فراق دام خمسة عشر عاماً، حين وعدته بالحب، على رغم أنها كانت تحب رجلاً آخر متزوجاً من أخرى، ثم تركت الإثنين لتتزوج من ثالث. وهذه الرسالة لم تكن الوحيدة، بل تبعتها رسائل اخرى أدت بالراوي إلى كتابة روايته الأولى بحماسة كان يسعى إليها كي يسرد وفق ما وصف: «تلك الفسيفساء من الأحلام الضائعة، والذوات المعذبة التي عاشت في دكنة أزمنة سوداء».

اتبع بشير مفتي أسلوباً مختلفاً في تقسيم أجزاء روايته، بدأها بافتتاحية عنوانها: «في وصف الأحوال»، تليها ثلاثة أقسام 1، 2، 3، ثم وضع عنوانين: «في وصف الأشواق»، و «في وصف الهلاك» ويتخلل تلك الأقسام عناوين مقطوعات نثرية وجدانية تأملية استرجاعية: «كتبت في كراستي».

يباشر الراوي في قسمه الثاني استجلاب الذاكرة وسرد مفاصلها، وهي تكشف في ما بعد عن تركيبته النفسية من خلال صراعه وحبه وحرمانه وغضبه وتمرده، وحواراته الداخلية المثقلة بالصور والأحداث والألم والرفض وهواجس النفس.

تمرد الراوي على الدين، والأفكار المتوارثة، والقيم المحنطة، والواقع، والأسرة، وصوّر صراعه النفسي من خلال التركيز على ضياع القيم والانحرافات والتجاوزات. فتشظت صورة الراوي، الذي حلم بالتغيير، وجهِد وهو يبحث عما يؤمِّن له الوسائل الأولى للعيش. أما رفضه الأكبر فتمثّل بالوطن، حين عبّر عنه قائلاً: «كنت أحسني أنتمي إلى جيل المخدوعين في هذا الوطن، جيل الذين يدفعون ثمن أخطاء آبائهم».

إن رواية بشير مفتي المتشظية، تشير إلى أن الصراع الذي يحيط بالمبدع، يؤسس للمضمون الإنساني للنص، وعلاقته الوثيقة بالمجتمع والأخلاق، فإما يكون الاتصال وإما الانفصال والعزلة.

كشف الراوي من خلال ذاكرته عن الشخصيتين الرئيستين في روايته، وهما الشاعران: «جمال كافي» و «سمير عمران» حين كان يلتقي بهما في الحانات حيث تدور رُحى السرد والحوار المسترجع من الذاكرة، والتي وضعت الإطار الزماني والمكاني للرواية، فبدا الراوي وأصدقاؤه سجناء المكان والزمان، وذلك ما بين «حانة مزيان» و «حانة أرزقي» للاحتساء وإشباع الرغبات الغريزية: «هنالك من ينتكس في الحب فيتحول إلى عاشق للجسد فقط». كل واحد منهم كان يشرب كي ينسى المرأة الحاضرة في الوجدان والغائبة عن العين. فقد أحبّ الراوي عن طريق الصدفة امرأة واحدة، تُدعى ليلى مرجان، وتشاركته برجلين، أحدهما أحبته، والآخر تزوجته. أما صديقه جمال كافي فكان يحب امرأة تُدعى «باية»، وصدفة أيضاً وقع سمير عمران في حب المرأة نفسها، ذلك الحب الذي يؤدي به لاحقاً إلى الانتحار… ويقرر مصير جمال كافي والقدر وحده ينقذ عزيز مالك.

لم يسعَ بشير مفتي إلى الخلط بين الذاكرة والمتخيل، بل سردها بصورة وكأنه يعيشها مرة أخرى في زمن آخر، على رغم الشحنات الانفعالية والانعكاسات الشعورية التي كانت تسكنه، والدليل على ذلك ما قاله على لسان الراوي: «الكتب لا تحكي دائماً عن الخيال، بل تضفي على الواقع البارد حرارة منعشة تجعله أكثر دفئاً مما هو عليه».

حال بشير مفتي هو حال معظم الكتاب الجزائريين، الذين يحتل الوطن المساحة الأوسع في أدبهم، وهو غالباً ما يبدو وكأنه المحرك الأساس لأقلامهم، ومصدر التشويق في رواياتهم، ومنبع الإلهام في أشعارهم، ولا أحد يستطيع تقييم هذا الأمر أو الحكم عليه إيجاباً أو سلباً، خصوصاً حين يبرع بعضهم في مزاوجة الوطني بالشخصي من خلال تشريح تركيبة المجتمع الجزائري الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، انطلاقاً من انكسارات الوطن وتصدعاته وانتكاساته، وارتباطها الوثيق بالمواطن الجزائري ومدى تأثيرها في نفسه، وكأنها عملية تصعيد وتحويل من أجل التعويض عن واقع ما أو حلم ما.

لقد قارب معنى النص عند بشير مفتي الحكاية التي سردها من خلال بنيته ونسيجه ومكوناته وعلائقه، فلم يحتوِ النص على حبكة روائية. والحدث بدا استرجاعياً من خلال الذاكرة، ووجدانياً من خلال ما جاء تحت عناوين «كتبت في كراستي». أما عنصر الحوار الذي تخلل السرد، فمنح النص شيئاً من الحيوية. أما السرد فسار على خط مستقيم ونغم واحد خافت من البداية حتى النهاية.

واللافت في الأسلوب الفني الذي اتبعه بشير مفتي على مستوى الألفاظ والجمل، فقد راق له استعمال جمع المؤنث السالم غير المشاع على النحو الآتي: «ونقهر الفقر اللعين الذي كان صديقنا لسنوات طويلات»، «لليال طويلات»، «الأيام الخاليات»، السنوات القاسيات»، «الأيام الحزينات»، السنوات الماضيات». ويمكن ملاحظة بعض الاضطراب في لغة الرواية والتراكيب النحوية.

ولكي أنهي هذا المقال يجب أن أعود إلى الذاكرة التي انطلق منها بشير مفتي عام 2010، ثم عاد إليها ليؤكدها حين أنهى الرواية عام 2012 قائلاً: «الحاضر لم يولد بعد، الماضي حاضر دائماً».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى