بطل حسن داوود عاشق يحترف الانتظار

الجسرة الثقافية الالكترونية
*كاتيا الطويل
«نقّل فؤادكَ حيث شئت من الهوى/ما الحبّ إلاّ للحبيب الأوّل»… لم يعد بيت أبي تمّام هذا مجرّد بيت شعرٍ تتناقله الأجيال ويعيد العشّاق تلاوته، فقد خرج هذا البيت من قرنه الهجريّ الثالث وتجسّد في عنوان رواية حسن داوود الحديثة «نقِّل فؤادك» الصادرة بطبعتها الثانية عن دار الساقي. و«نقّل فؤادك» رواية داوود التي تناهز المئة والخمسين صفحة، تكمل في خطّ الرواية نفسها التي سبقتها «لا طريق إلى الجنّة». فعلى الرغم من اختلاف المضمون عمومًا، إلاّ أنّ الروايتين كلتيهما تنقلان حالة بطل تخطّى عمر الشباب واختلفت مقاييس رؤيته للعالم من حوله، وراح ينظر إلى الأشياء بعين الرجل الذي عاش طويلاً ولم يعد يشعر بانتمائه إلى الحياة، وكأنّها تسير إلى جانبه وتبتعد عنه مع كلّ خطوةٍ يخطوها. وإلى جانب ذلك يشترك البطلان في علاقتهما المضطربة مع الحبّ والحبيبة، وفيما يظهر استسلام رجل الدين الواضح في رواية «لا طريق إلى الجنّة»، يحاول قاسم بطل «نقِّل فؤادك» المقاومة ولو بشيء من الخمول الهادئ والانتظار العبثي والبحث الخجول.
فراغ شامل مُزعزع
يعيش بطل حسن داوود حالة فراغ وانحطاط على الرغم من أنّه في الثامنة والخمسين من عمره ولا يزال يتمتّع بشيء من حماسته الشابّة وحبّه للفكاهة وحسّ النكتة. وحالة الفراغ هذه تبدأ أوّلاً على صعيد المهنة، فقاسم الذي بدأ عمله الجديد في مجلّة قيد التأسيس يشعر بنفسه غير قادر على الاندماج مع محيطه وفريق عمله ومتطلّبات مهنته من حداثة وابتكار يطلبهما منه طلال صاحب المجلّة. ثمّ يلاحظ القارئ وجود هذا الفراغ الضبابيّ نفسه على صعيد الحياة العاطفيّة، فقاسم إلى حدّ علم القارئ غير متزوّج وتنحصر دائرة أصدقائه بوائل وسعاد اللذين يرد ذكرهما على مدار السرد. كما أنّ طبع قاسم نفسه ينمّ عن شيء من حبّ العزلة والوحدة والابتعاد.
لكنّ ما يضاعف وطأة هذا الفراغ، هو فراغ الأمكنة، كلّ الأمكنة التي يمرّ فيها البطل. فالطرق في وسط المدينة خالية إلاّ من بعض المارّة، والمحال خالية من الزبائن ووحدهنّ العاملات والعمّال هم الذين يقبعون خلف الواجهات بانتظار مشترٍ لم يظهر بعد. المقهى نفسه الذي يجلس فيه قاسم مع رفيقه وائل هو على وشك الإغلاق من قلّة الزبائن شأنه في ذلك شأن بقيّة المقاهي المحيطة به التي أغلقت أو تتحضّر لذلك. هي إذًا حالة شاملة من الفراغ والخواء القاتل، وكأنّ البطل يعيش دوّامة رماديّة من الوحدة والأنا المنعزلة التي كلّما نظرت حولها وجدَت الفراغ . وهذا الفراغ نفسه متجسّد بكلّ ثقله وسوداويّته في صفحة الغلاف فنجد رجلاً بائس الملامح، حزين القسمات، عالقًا على حبل رفيع فوق مدينة فارغة تكاد تسقط، رجل واحد فوق، يجلس بهدوء وسكينة، لا يعرف أينزل أم يبقى مكانه، لا يعرف مَن تراه يجد عند نزوله فيحتار ويبقى بمفرده على الحبل، رجله على الحبل والأخرى تتحضّر للنزول.
ويبقى الفراغ الأكبر هو فراغ الحبّ، فراغ غياب الحبيبة. يبقى الثقل الأساسي في حياة البطل، الهوّة السوداء التي لم يعرف كيف يملأها منذ أكثر من سبعة وعشرين عامًا. فقاسم، البطل المشارف على الستّين، يبحث عن دلال التي عرفها وأحبّها بصمت أيّام المدرسة: «إنّني كنتُ زميلاً في المدرسة لدلال عبّاشي، وكنّا صديقين، وهي غادرت بيروت في سنة 1965 ولم أعرف عنها شيئًا منذ ذلك الحين.» (ص 14)
«هكذا كان الحب يا وائل، أن ننتظر أن يحصل شيء من تلقائه. أن ننتظر شيئًا من دون أن نبادر إلى شيء.» (ص 61) إن أردنا تلخيص شخصيّة قاسم بصفة واحدة هي أنّه منتظر. هو العاشق الأبديّ، المنتظر الهادئ، الرجل الخمسينيّ الذي لا يزال مغرماً بدلال الفتاة الشابّة التي يبحث عنها منذ ثلاثين سنة. ولا يمكننا الجزم أكانت محاولات قاسم جدّية فعلاً في بحثه عن دلال أم لا، ولكنّه سافر إلى الأردن بحثًا عنها ولم يفلح، ثمّ راح يقتفي أثرها كلّما التقى شخصًا قد يكون من عائلتها أو قد التقى بها يومًا من الأيّام.
وهذا الحبّ العتيق العالق في دوّامة الماضي قائم على أحلام شاعريّة رومنطيقيّة، هو حبّ يعرف قاسم أنّه سينكسر عندما يلتقي دلال، فالحلم دومًا أجمل من الواقع، ودلال الشابّة اليافعة التي أحبّها ويحبّها ما زالت الفتاة اليافعة نفسها ويرفض أن يتخيّلها امرأة ناهزت الستّين من عمرها ويمكن تسميتها بـ»ستّ دلال»، حتّى أنّه يرفض رؤية صورة حاليّة قد تكون لها وهي في أواخر خمسينيّاتها.
البطل المضاد
لا يمكن قارئ «نقّل فؤادك» أن يمتنع عن طرح أسئلة حول بطل داوود، أسئلة كثيرة لا يخشى الكاتب أن يتركها مفتوحة من دون إجابات عنها بين السطور. لماذا لم يحاول قاسم فعلاً البحث عن دلال وإيجادها؟ أتراه يخاف الحبّ ويفضّل الحلم به وانتظاره؟ أتراه يخشى أن تصدمه دلال الواقع ويفضّل أن يتمسّك بفكرة الانتظار والحلم المثالي الشاب والعودة إلى الماضي؟ أتراه يخشى رؤية دلال وقد تقدّمت في العمر فيكتشف أنّه هو أيضًا لم يعد شابًّا؟ أتراه يفضّل سحرَ وَهمِ الحبّ على واقعيّته وجفائه وعاديّته؟ ومن هنّ أولئك الفتيات الآسيويّات اللواتي يلتقي بهنّ كلّ صباح وهو في طريقه إلى المجلّة؟ ولماذا هنّ بالذات يتوقّف الوصف والسرد عندهنّ؟ ولماذا يهتمّ قاسم كثيرًا بهنّ ويحاول فتح حديث معهنّ؟ مَن هو قاسم؟ ماذا فعل في حياته قبل أن يبلغ الثامنة والخمسين من عمره؟ ماذا درس؟ كيف وصل إلى حالة الفراغ التي نجده عالقًا فيها؟ إلى متى ينتظر حبّه الأوّل؟ إلى أيّ مدى حسن داوود هو قاسم المنتظِر؟…
أسئلة كثيرة يتركنا حسن داوود محبوسين داخلها من دون إجابات كافية شافية. أسئلة كثيرة يبدو أنّ البطل نفسه لا يجيد الإجابة عنها، ليبقى السؤال الأخير والأهمّ، السؤال الذي نطرحه بخجل وخوف لأنّنا نشعر في قرارة أنفسنا أنّ قاسمًا قد يكون أيّ واحدٍ منّا، كلّ واحد منّا: أتراه بطل حسن داوود ينتظر حبّه الأوّل دلال لأنّه يحبّها أم هربًا من الواقع ورغبةً منه في الإمساك بشذرة من شذرات ذهب الشباب الذي ولّى؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحياة