بطولة الألم في العملية الإبداعية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

ليس فعل الكتابة فعلا عدوانيا مؤلما؟ ألا تتألم الورقة مرتين: مرة لأن هناك قلما يخدش جسدها، ومرة لأن هناك لونا أسود يلوث بياضها الصافي الطاهر؟

 

بهذا التساؤل الذي طرحه الناقد المغربي الدكتور حسن المودن عن الكتابة التي تسبب الألم وتتسبب أيضا عن الألم، نود أن نتبع هذا التساؤل بسؤال آخر معاكس إذا كان بالإمكان اعتبار الكتابة وكافة الفنون الأخرى نوعا من البوح الذي يريح النفس ويسكن الآلام بعد تفريغها على شكل أشعار أو قصة أو رواية أو مقطوعة موسيقية ويعيد التوازن للنفس بعد رمي العبء النفسي في شكل إبداعي.

 

وهذان التساؤلان أيضا ينسحبان على المتلقي أيضا الذي ينتقل الألم إليه بالعدوى والتأثر، فكثيرا ما يشعر القارىء بوخزات الألم بعد قراءته عملا إبداعيا أو مشاهدته لمسرحية أو فيلم أو مسلسل أو سماعه لمقطوعة موسيقية.

 

وفي مسيرة التاريخ الإبداعي للبشر أثبت الألم بطولته في تميز كثير من الأعمال الخالدة، التي استطاع كتابها صياغة الوجع إلى فلسفة، ففي حياة الشاعر ديك الجن الحمصي مثلا وجلال الدين الرومي في التراث الإسلامي ، وبودلير ورامبو ولتريامون في الأدب الفرنسي، وريلكه في الأدب الألماني وطاغور في الأدب البنغالي استثمار حقيقي للآلام النفسية والجسدية التي أنتجت إبداعات متميزة، ووظفت اللحظة الإبداعية المرتبطة بألم الحواس في تشكيل موقف من الحياة والوجود والإنسان.

 

وقد ركزت أغلب النظريات النفسية المتعلقة بالإبداع مثل نظرية فرويد على الألم كشرط ومكون رئيسي للحظة الإبداعية، فأغلب الأعمال المتميزة كانت نتاج ألم دفين في أعماق اللاشعور سواء كان هذا الألم حسيا أو نفسيا ناتجا عن وحدة أو حزن أو يأس، وهو الدافع الرئيسي خلق العملية الإبداعية، فقد اعتبرت التنظيرات النفسية أن الانفعالات الناتجة عن الألم ظواهر نفسية صاحبت الخيال المبدع وتسببت فيه أيضا كما جاء عند عالم النفس لوسيان آريا ول، الذي بنى آراءه النفسية فيما يتعلق بالإبداع على تلازم الانفعال مع التخيل بحيث يكملان بعضهما البعض، ولاحظ أن الإحساس هو الذي يستهل العملية الإبداعية التخييلية ويسيطر عليها، وأي إحساس أكثر سطوة من الألم حين يعمل في ذهن المبدع على تحفيز الخيال إلى أعمق تشكيل له.

 

وحين يصوغ المبدع بشكل عام سواء كان كاتبا أو فنانا أم موسيقيا آلامه الجسدية أو النفسية أو كليهما معا في عمل إبداعي فإنه حسب النظريات النفسية يعيش الألم مرتين، مرة حين ينبض فيه الوجع خارج اللحظة الإبداعية وهذا ما يتلازم مع تفاصيل حياته لحظة بلحظة، وحين يفرغ الألم على الورق فعملية التفريغ بقدر ما تكون مخلصة ومطهرة له في ذات لحظة الإبداع إلا أنها تنتج له آلاما فيما بعد لا تقل وجعا عن لحظة إخراجها في عمل إبداعي.

 

على الطرف الآخر من الألم يقف المتلق ملتقطا تلك اللحظة التي فرغ فيها المبدع آلامه ومستجيبا نفسيا مع تلك اللحظة، ومشاركا له في تخيل الألم وتقمصه أحيانا كما يحدث لدى كثير من القراء والمتلقين، فمن شدة إعجابهم بعمل ما فإنهم يعمدون إلى تبني إحساس صاحبه لدرجة إسقاط الحالة النفسية على من حولهم.

 

وفي مثال على دور الألم الحسي في صناعة الإبداع وعلى تأثير هذا الألم على المتلقي ليس نفسيا وحسب وإنما جسديا، تعد مقطوعة سيغفريد للموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر مثالا على تقمص الألم وصياغته كشكل من أشكال الفن الممزوج بإحساس عميق بالوجع وإيصال هذا الألم إلى المتلقي على شكل نبضات وجع.

 

فقد كان فاغنر يعاني من نوبات حادة من الصداع النصفي، وكان يصب آلامه ومعاناته في أعماله الاوبرالية وبالذات المقطوعة الثالثة من الحلقة الاوبرالية الشهيرة له المكونة من أربع حلقات وتسمى “نيوبلونغ”، وكان يصف أوجاع رأسه بالبلاء الرئيسي الذي عذبته طوال حياته، ومن خلالها أنجز مقطوعته الاوبرالية الثالثة من الحلقة المسماة سيغفريد التي يصرخ فيها البطل في ذروة تصاعدها: هذا البلاء القاهر.. متى ينتهي.

 

وكانت هذه الصرخة بمثابة صرخة وجع حقيقية تنبض بالصداع، والغريب والغامض في تأثير هذا الوجع في المتلقي الذي ما أن تصل المقطوعة إلى ذروتها حتى يحس بنبضات وجع في رأسه، وبذلك شاطر المتلقي المبدع جزءا كبيرا من أوجاعه التي عبر عنها فاغنر في مذكراته “كنتُ عاجزا بالمعنى الحرفي للكلمة عن كتابة مقطع واحد من دون أن تبعدني عن عملي أوجاع شديدة في رأسي، والآن فإن جهازي العصبي شبيه ببيانو ذي أصوات ناشزة وأشعر أن الأسلاك ستنقطع وتكون عندئذ النهاية”.

 

في هذه المقطوعة يتجلى الألم كبطل حقيقي في خلق الإبداع وصياغته وتأثيره بالعدوى المباشرة والسريعة على المتلقي، وفي ترك الأثر الحسي على نفسيته بالقدر الذي كان يعاني منه المبدع تماما.

 

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى