«بلاد القبلات» للونا قصير.. وثيقة جيل

الجسرة الثقافية الالكترونية
علي نسر
بطريقة ملتوية ذات لعبة فنيّة جميلة، تترك الكاتبة لونا قصير في روايتها «بلاد القبلات»، حيّزاً صغيراً من الفضاء الكتابي للمتلقي، ليشاركها في الكتابة عبر البحث عن هوية المكان. فهل شكّلت بلاد القبلات فردوساً مفقوداً عوّدنا الرّوائيون العرب على البحث عنه عبر الحلم، بعد ما تركته الحياة من خيبات أمل؟ أم هو مكان نعبره، ونعشقه بعد افتقاده؟
في هذه الرّواية، يشكّل المكانُ العصبَ الرئيس في النصّ، إذ ظهر بطريقة غير مباشرة، عبر ثنائية تقاطبية، لطالما شهدتها الروايات العربية، لاظهار اشكالية الانتماء، فتركت بلاد القبلات التي عنت بها الكاتبة الغرب عبر الدولة الفرنسية، بصمة لم تمحُ الأيام آثارها من حياة الراوية/ البطلة. فالقبلة غير المنفذة رمزٌ، جعلته الكاتبة صفّارة انطلاق لحياة قادمة فيها من الأزمات والعقد الكثير، لكنها شكّلت الحدث الفيصل في تغيير رؤية البطلة التوّاقة الى الحياة برغم ضرباتها.
تركّز النص على المقارنة الضمنية بين الأنا والآخر، من خلال البحث عن الحب. فشكّل الحبّ الهاجس الذي دفع البطلة الى الحركة على طول صفحات الرواية، بدءاً بالمراهقة، مروراً بالانتقال الى خارج الوطن ثم العودة فالزواج والحياة المعقدة، وصولاً الى حب مستعاد شكّل ضربة جديدة للنفس الحالمة دائماً. وكمعظم الروايات اللبنانية، شكّلت الحرب العنصر الطارئ والمبدّل الذي عكّر صفاء الحياة لدى أجيال من اللبنانيين، تاركة آثاراً تدميرية لم تقتصر على الحجر والموت الجسدي، إنما عملت على زرع اليأس والأزمات العصابية في نفوس من عايشها، بعد تشظّي مرايا الروح وتبعثرِها في أصقاع الوجود. «القذيفة والرصاصة تقتلان.. لكن الموت الروحي يؤدي الى حروب فتّاكة أكثر وعلى المدى الطويل..إذ إنّ اليائس لا يهمه أي شيء.. الموت والحياة عنده سواء» (ص37). فهذه الحرب التي تحذّر الكاتبة من امكانية عودتها نظرا الى عدم توقفها الا عسكريّاً، أحالت الناس أشلاء من الأمراض المتهاوية على قارعات الطرق، فصار المكان هيكلَ مكان، والزمنُ بطيئاً لا يشهد تغييراً، تُداس فيه القيم، والحب الخاسر الأكبر، ما دفع الكاتبة الى جعل المدينة صورة عن فزّاعات الحقول التي لا تحوي داخلها سوى الهشاشة.
وبرغم محاولة الكاتبة أن تجعل من نصها وثيقة لجيل أرْخَتِ الحربُ فوق حركته حمولتها، إلا أنها سقطت في كمائن (الأنا) التي أثقلت النص، وجعلت الكاتبة وليست الراوية، هي البطلة التي تختزل كل عناصر القصة في شخصها..فالحركة حركتها، والشخصيات ليست فاعلة بل منفعلة بسبب طغيان البطلة الحاضرة لتذويب كل ما في طريقها عبر حركتها فقط.. وهذا يجعل الرواية شبه نمطية، تذكّرنا بروايات بداية القرن العشرين، التي تمزج بين القصة والرواية والسيرة الذاتية. ويحاول كتّاب السيرة عادة، تنميق سيرهم عبر تقديمها بقالب روائي يخرجهم من مأزق قول الحقائق، لكن الكاتبة قدّمت رواية أقرب الى السيرة بمعناها العلمي والتطبيقي، بالاضافة الى انها شبيهة بمجموعة من القصص شكلت البطلة جسر تواصل بينها، إذ إن عدداً من الشخصيات لم يبق له أثر بعد انقضاء مهمته التي لم تصبّ إلا في خدمة الشخصية الرئيسة.
وما يمكن قوله، إنّ الهاجس الذي يكمن وراء الكتابة، لم تجعله الكاتبة يتقاطع مع الهاجس الكامن وراء القراءة، ما جعلنا أمام حكاية أكثر مما هي رواية، إذ لم يكن للفعل الروائي من حضور لافت إلا في أواخر النص حيث استعادة حب قديم أكّد أنّ المستعاد أقوى من الجديد لأنه لا ينطلق من الصفر بل من رصيد سابق مشحون لم يرتو على مر الزمن. وهذا ما جعل الكاتبة تغرق النص بتفاصيل شبه دخيلة أتخمته، وحمّلت القارئ عبئها، برغم أنها هي نفسها تكره التفاصيل.(لكنه علم أنني لا احب التفاصيل المملة.ص211). وهذه التفاصيل، ظهر بعضها، وبطريقة شعرية فنية، في غير موضعها الصحيح، إذ كسرت حدود ما يعرف بالحوار المجرّد، الذي ينبغي أن يكون بعيدًا من التنميق، بل يقتضي أن يقتصر على الضروريات نظرًا الى استخدامه في أوقات عصيبة ومحرجة لا تحتمل الشرح الكثير.. وهذا ما فعلته الكاتبة في حديث البطلة وصديقتها عما يقال عنهما من اتهامات وافتراءات.
المصدر: السفير