بن فليس يكرّم أساتذته في كتابه:

الجسرة الثقافية الالكترونية
بعد خمسين سنة من الاستقلال، جاء هذا الكتاب، في شكل مجموعة ثرية من البورتريهات، يكرّم فيه صاحبه معلّميه و أساتذته ذاكرًا مآثرهم و مواقفهم، بعد كتابه الأوّل الذي خصّصه لذكرى الشهداء من عائلة بن فليس في رسالة منه لجيل اليوم حتّى يزدادوا يقينا أنّ استقلال الجزائر هو الأغلى في التاريخ الحديث من حيث التضحيات.
العلم مفتاح التحرّر!
غلاف الكتاب
و في هذه المرة، يُخرج المناضل السياسي و رجل القانون الأستاذ علي بن فليس، إلى النور سيرة نضالٍ من نوع آخر، نضال العلم في مجابهة الجهل و الاستعمار. نضال رجال ما ينبغي نسيانهم خصوصًا و أنّنا في زمن نحتاج فيه إلى رموز تبعث فينا الأمل الذي خبا و تدعّم فينا الثقة التي تداعت.
ففي توطئة هذا الكتاب من الحجم الكبير و الإخراج البديع، نقرأ أنّ أوّل مدرسة تغرس حب العلم احترام المعلم في وجدان الناشئة هي من دون منازع الأم، فالأستاذ علي بن فليس أسهب في سرد فضل أمه في فطمه على حب العلم و المعلّمين في هذا المقام عرفانًا و احترامًا لدور المرأة الجزائرية الهام و الذي ظل خفيا.
بعد ذلك، ينتقل ليقول عن أساتذته ما يلي:” إنّهم لم يكونوا مجرّد أساتذة أو معلّمين لمادة علمية محدّدة، فبالرغم من عيشنا وسط نظام استعماري قمعي فقد نجحوا في حفظ شخصيتنا الوطنية بشكل كامل، هويتنا و لغتنا و ديننا و ثقافتنا، و في الوقت نفسه فتحوا عيوننا و قلوبنا على معارف و ثقافات و لغات العالم قاطبة“. هذه العبارة ترشح بمعاني كثيرة و عميقة هي من بنات فكر هذا العصر الذي نعيش فيه الاستلاب على كل الجبهات، فالشخصية لا تكون متوازنة إلّا إذا اتضحت لها معالم هويتها و خلت لغتها من الشوائب و صار دينها مرادفًا لحسن المعاملة و أضحت ثقافتها وعاء يتسع للكل. كما يضعنا الأستاذ علي أمام أهمية الانفتاح على الآخر ننهل من معارفه حتّى نصنع لأنفسنا أسباب القوة و الرقي.
نجد كذلك ضمن هذا الكتاب الذي هو إثراء للتاريخ، ثُلاثية تعتبر دعائم التعليم الناجح و الدائم و هي ” الالتزام و دقة المنهجية و الإنصاف”، و لقد حرص صاحب الكتاب على إبرازها لما لها من دور حساس و بارز في تحديد مسار الحاضر و المستقبل. فتكوين الفكر هو من أكثر المهام مسؤولية في رسم خارطة تسيير البلاد. إذْ يكفي فقط أن نستقرِئ معطيات الواقع و نبحث في خباياه حتّى نكتشف أنّ حالة الوهن و التراخي التي تجثم على نفوس و عقول العباد، و أنّ سياسة الترقيع و العجلة التي تطبع البلاد، و أنّ المحاباة و المحسوبية التي تصنع القرار و الاختيار، سببها كلُّها غيابُ هذه الثلاثية.
و يمضي بنا المناضل السياسي علي بن فليس في تحليل الدور الحساس الملقى على عاتق مربّي الناشئة، إذ المطلوب منهم أن يوثقوا أواصر الثقة بينهم و بين تلاميذهم، فمن دون ثقة تتبخر النوايا و تشيعُ المجاملة. و كذلك المطلوب منهم بسط سلطتهم المعنوية فمن دون هيبة يختلط الجد بالهزل و تُستصغر الأمور المصيرية.
مقدّمة الكتاب.. قاموس من الأفكار
ميزة أخرى لهذا الكتاب هي مقدّمته التي وقّعها الأستاذ الجامعي و المفكر المعارض الدكتور محمد لخضر معقال صاحب عدّة مؤلفات تناول فيها النخب الإسلامية و العربية و دور المثقف العضوي في إزاحة ثقل الركود عن مسار ديناميكية المجتمع لتظل التغيّرات وسيلته في التجدّد.
مقدّمة الدكتور محمد لخضر معقال تدور حول “أخوّة متلاحمة” جمعته بالأستاذ المناضل علي بن فليس منذ أيّام الدراسة في مرحلة الثانوي، و هو ما يفسّر وجود عدّة معلومات تاريخية هامة تعكس مرارة المعاناة التي عاشتها كل الأسر الجزائرية إبّان حقبة الاستعمار، لكن هذا لم يمنعها من طلب العلم بشتّى السُبل.
كما نلمس بشكل قوي ضمن كلمة الدكتور معقال كيف أنّ الوفاء الذي غرسه من لقّبهم الأستاذ علي بن فليس بـ”هؤلاء الذين أناروا لي عبقرية لسان العرب“، يشكّل العروة التي يتشبّت بها من كان يومًا ما تلميذهم، إذ تظل هذه الأخوّة بين الأحياء فوق كل اعتبار و رحمة و تذكار للأموات.
و يضيف: ” فجزائر اليوم التي تتخبّط في العتمة بإمكانها كما في الأمس القريب أن تتحوّل إلى فضاءٍ ينير فيه الأملُ وجودنا، على الأقل من خلال إرادتنا بممارسة ذاكرتنا و واجب عرفاننا نحو مجموعة من الأساتذة سيرتهم هي مطمورةُ العبر“، فهو بذلك يقترح علينا الحلول المنطقية و أيضًا المتبقية أمامنا و المتمثلة في توظيف الماضي لبناء الحاضر من خلال إعلاء شأن كل من يساهم في تعليم الأجيال.
إن كتاب المناضل السياسي علي بن فليس، ينضوي على عدّة قراءات إذ يرتبط ذلك بزاوية الرؤية، ففيه من التاريخ، من القانون، من الأدب، من الفكر، من المنهجية ما يصلح أن يكون مرجعية في التدريس الذي يبني جيلًا متحرّرًا من قيود التبعية المُظلِلة وهو ما ركز عليه كاتبه:” فقد حوّلوا مهمتهم التربوية و التعليمية إلى تأسيس جيل حرّ متحرّر، و من خلاله حرية و تحرّر الشعب الجزائري و أرضه“، فلا سيادة من دون حرية مبنية على التربية و العلم.
إن قراءة هذا الكتاب لهي بحق فسحة ممتعة في حدائق اللغة العربية، نتمتع بقطوفها الدانية، و ننهل من بديع الفكر الشرقي و الغربي في حضرة مرافعة مهيبة أرادها رجل القانون الأستاذ و المناضل السياسي علي بن فليس لتكون لقاءً بين جيل الأمس و اليوم، و الحكم الصادر فيها” أنّ الرجال الخالدين هم هؤلاء الذين يَبِرّون بوطنهم، يَبِرّون بأهلهم، و يَبِرّون بأصحاب الفضل عليهم“.
…..
صحافة جزائرية