«بيت جبل عمان» للفلسطيني نديم عبدالهادي: قصص طوافة عابرة للأزمنة الأولى!

الجسرة الثقافية الالكترونية
علي ابو عجيمية –
في مجموعته القصصيّة، «بيت جبل عمّان»، الصادرة عن دار الأهليّة للنشر والتوزيع (الأردن)، والفائزة بجائزة مسابقة الكاتب الشاب للعام 2012/ مؤسسة عبد المحسّن القطان (فلسطين)، يقدّم القاص الفلسطينيّ المُغترب، نديم عبد الهادي، قِصصاً هادئةً في سرديّتها، أليفةً في علاقتها بالشخوص والأمكنة، عميقةً في نقاط تقاطعها مع الواقع.
القاصّ، المهندس الذي عمل في مدينة الدمّام السعوديّة، والعائد إلى عَمّان، يجد في الغربة صيغةً مُركّبة؛ غُربة العمل الصحراويّة، وطقوسها، وأحوالها، وغُربة الطفولة والتكوين الأوّل. بهذا المعنى، يشكّل فِعل الاغتراب والاقتراب، الإطار النفسيّ العام لهذه القصص، التي سرعان ما تستثمر هذا الفِعل ليكون مبعث قلقها، ومسرح موضوعاتها؛ فبينما تنفرط اللغة اليباس في متون الحكاية اليوميّة، وتنأى بشجنها وأثيريتها بالدمّام، تقترب هذه الحكاية من طفلها العائد إلى عمّان، بكثيرٍ من الحنين، والبوح، والتأمّل في مدينة متسارعة، ومتحوّلة، وغير مُحصّنة.
القصّة الأولى في الفصل الأول، بيت جبل عمّان، التي تحمل المجموعة اسمها، والتي تقع في عشرة فصول متفاوتة في طولها، يبدأها نديم عبد الهادي بمصاحبة النسيان، «صديقه الهيّن الليّن»؛ النسيان الذي ما يلبث أن يصبح «حكّاء ساحراً» كما يقول.
مركز الحبكة، ولغز الماضي، هو البيت المأسوف عليه، الذي يصفه وصفاً دقيقاً بمسحةٍ شاعريّة، مردّها الحنين. أمّا أبطالُ القصّة فهم مُحاطون بشخصه، وهو مُحاط بهم. (خالته، التي «حصدها الموت بمنجله»، مؤيد ابن خالته، وجيرانه: جاكلين وأخوها الأعزب عصمت، المسنّين جدّاً).
وبقدر ما يبدو المكان كبطاقة هُويّة في هذه القصة المركزيّة، بقدر ما نجد السرد الحميم يحوّره تماماً، وينأى به جانباً، ليجعل من ذكريات العابرين إليه، والخارجين منه، زمناً تأسيسيّاً.
مغتربون I I
لا يكتفي نديم عبد الهادي بسرد قصّته كمُغترب، بل يرصد قصص مغتربين آخرين، يزاملونه، ويذهبون معه إلى الحياة، بعيون متأمّلة. «فشاندرن» الهنديّ، في القصّة الأولى: هو ابن الطعنة الدامية، «الذي دخل المملكة العربيّة السعوديّة، قبل ثلاث عشرة سنة» ، في سنّ صغيرة، والذي يعمل ساعياً في شركة هندسيّة، يحاول أن يوضّب أموره، ويضبط علاقته بمديره والمهندسين من حوله، إذ يصوّره عبد الهادي، تصويراً محمولاً على خفّة التفاصيل، ولعلَّ أطرفها، حرص هذا الساعي على التعلّم، وشغفه الكبير بالإنجاب.
«شاندرن»، يمثّل حالة إنسانيّة، جارحة في سياقها؛ حالة مضاعفة من الاغتراب والأسى، تعبر من خلاله القصّة لتطرح أسئلة كبيرة حول الأسباب السياسيّة، والاجتماعيّة، التي تدفع بالهنود، إلى العمل في البلاد العربيّة النفطيّة.
ثمّ يستمر، عبد الهادي، بهذا النفس، لينتقل بنا إلى القصّة الثانية: سونيل النجار، الهندي الآخر الذي يعمل في كل شيء، سوى مهنته الأساسيّة، النِجارة. تصوّر هذه القصّة جانباً كبيراً من حياة الهنود في بلدِ الرفاهيّة الخاصّة، وتصوّر أحلام البسطاء، والسعي المُغبّر للرزق، وشظف العيش. إنّها تطرح مفارقة كبيرة، في نسجها، وبنائها.
أمّا «ميديك» الفلبّيني الجنسيّة، الذي يطل علينا في القصّة الثالثة: (سائق الكرين 101)، فهو سائق المعدّات الثقيلة المغضوب عليه، «السكّير»، كما يصفه مشرف الموقع المصريّ، والذي يُعاديه، ويسبّه.
يرصد عبد الهادي، عدداً من الملامح في هذه القصّة، التي تشكّل امتداداً لسابقاتها، غير أن الباكستاني الذي يدخل القصّة، يُدخل عبد الهادي في سؤال كبير حول العلاقات بين الشعوب، والأسباب القيميّة، والدينيّة، في بنائها، وطريقة التعاطي معها.
مغتربون II
ينتقل عبد الهادي، في الفصل الثاني للمغتربين، ليرصد بكثير من الحميميّة، أدق العلاقات الاجتماعيّة، والإنسانيّة للمغتربين العرب، الذين ينظرون بعيون قلوبهم إلى أبنائهم، وذويهم من جهة، وإلى رواتبهم، وأحوالهم من جهة أخرى، في قصص غنيّة بالمشهديّة الرؤومة، والحواريّة المباشرةِ، الدقيقة.
يضم هذا الفصل أربع قصّصٍ متداخلة في موضوعاتها، ومعالجاتها. في البلاد وهي تبتعد: يطلّ علينا المهندس القديم، المقيم تقريباً بالدمّام، لأنَّ البلاد تبتعد في كلّ مرة: (أبو محمد)، الذي يتلمّس حركة أبنائه ودقّاتهم على ظَهْر الأرض. الابن الأكبر يدرس الطبّ بباكستان، وآخرٌ يدرس الهندسة المدنية كأبيه بالأردن، والابنة رحاب التي تمثّل نقطة تحول كبيرة في العائلة، تعود إلى نابلس، وتنتقل من دراسة الصيدلة إلى دراسة الشريعة، ثم تتزوّج من أستاذها الأربعينيّ.
إنَّ هذه القصّة مثال حيّ، لانعكاسات الحالة الفلسطينيّة، في نهاية التسعينيّات، وبداية الانتفاضة الثانية في العام2000. انعكاسات على المغتربين عامّة، وعلى أبنائهم خاصّة.
مغتربون III
أمّا في فصل المغتربين الثالث، فنلج إلى قصتين من نوع آخر. الغُربة فيهما وافدة إلى الأردن، الغُربة العربيّة، العربيّة، من العِراق ومِصر.
القصّة الأولى في هذا الفصل جاءت بعنوان: (حكاية الرجل الذي يحب الفخر)، وهي حكاية رجل عراقيّ يدعى: «أبا هند»، يعمل في الشركة العراقيّة بالأردن. ترصد هذه القصّة عدداً من السياقات الاجتماعية، وعدداً من المواقف الساخرة، والمفارقات الذكيّة، لهذا الرجل باعتباره حالة كبيرة، وكثيرة في المجتمع العربي. لا يتوقف هذا الرجل عن الفخر، لدرجة أنّك تظنّه عمرو بن كلثوم، لكن بمعلّقة الخراب والاغتراب. أبو هند أخيراً، وبعد التفجير القريب من بيت أهله في العراق، يتخبّط، ويحاول الاتصال بالأهل، الذين لا يردّون، فيجهش بالبكاء، لكنّه في نهاية المطاف يقول: «أعرف أنّي بكيت. ولكني أفتخر لأني بكيت خوفاً على أهلي». وبهذا تكتمل حفلة الفخر النفسيّة!
أما القصّة الثانية فجاءت بعنوان: (واترك اسمي حقيقياً)، وهي قصّة الفتى المصريّ، طارق، الذي يدخل الأردن للعمل. وهي قصّة ذات أبعاد إنسانيّة، كبيرة، لا تخلو من حمولات القهر، والفقر، والحالة المصريّة في تعقيداتها، وظروف عمل المغترب، وحرصه الشديد على فعل شيء ما، يعود به إلى حلمه البسيط راضياً، مُطمئنا.
يمكن القول، إنَّ قصّة نديم عبد الهادي، هي شخصه، وحياته، وعمله، وتأمّلاته الخاصّة، والحقيقيّة، يُغطّيها عشب اللغة البسيط، الملازم للعمق، كما تحملها السخرية إلى جِدّة الغُربة الجارحة. الفكرة عنده: خيطٌ رفيع أبيض، يتبيّن خيطه الأسود من الفجر، أمّا تقنياته فهي تقنيات المثقف المطّلع على حركيّة الإبداع باقتدار.
تطوف قصص نديم عبد الهادي، في غير مكان، وفي غير زمان. إنّها القِصص الطوّافة.
#القدس العربي ً