بيدرو كاديفار يتأمل معنى الاغتراب عن إيران ولغتهابيدرو كاديفار يتأمل معنى الاغتراب عن إيران ولغتها

الجسرة الثقافية الالكترونية
*أنطوان جوكي
«لا نختار لغتنا الأم»، يقول الكاتب والمسرحي الإيراني بيدرو كاديفار (1967) في مدخل كتابه «كتيّب الهجرات» الصادر حديثاً عن دار «غاليمار» الباريسية، ويتضمن تأملاتٍ مثيرة في الأدب والارتحال، وفي تلك العلاقة بين اللغة والفضاء الجغرافي والهوية.
«لا نختار البلد الذي نولد فيه»، يقول أيضاً كاديفار، بالتالي يمكننا تبنّي وطنٍ آخر ولغةٍ أخرى، كما فعل بنفسه حين استقر في باريس عام 1983، ثم في برلين عام 1996، وسعى إلى الابتعاد من اللغة الفارسية ومن كل ما يربطه بوطنه الأم، متخذاً طريقاً معاكساً لمواطنه، الكاتب صادق هدايت (1903 – 1951) الذي عاش قبله في باريس من دون أن يتخلى عن لغته الأم.
في كتاب كاديفار الجديد، تتقاطع تأملات في حياته بأخرى في مارسيل بروست (السفر المحلوم أو الواقعي، والإدراك الحسّي الذي يذهب بنا دائماً إلى فضاءٍ آخر وزمنٍ آخر)، وفي صادق هدايت (مرحلة دراسته في الليسيه الفرنسية في طهران، ثم منفاه الباريسي)، وفي صامويل بيكيت (إقامته في برلين، تردده على المتاحف)، وفي الفن عموماً. وتدريجاً، نمرّ من إدراكٍ ملموس للحدود الجغرافية إلى إلغائها، ومن مشاهد مألوفة إلى سؤال الانتماء. وفي هذا السياق، يستحضر كاديفار الكنيسة الغوطية التي تخيّلها بروست وأدخل عليها عناصر هندسية فارسية، و يستحضر أيضاً الرسم الذي أنجزه الفنان الألماني ديورِر إثر عثوره على مشهدٍ مألوف في إيطاليا، علماً أنه قصد هذا البلد بحثاً عن جديدٍ.
تحتل الكآبة موقعاً مركزياً في هذا النص، «لا الكآبة بوصفها حالة مدمِّرة تناهض الحياة، بل كجسرٍ بين الحزن الأسود لفقدانٍ موقّت أو نهائي، والحياة التي تستمر. الكآبة كحالة تنفتح، داخل الفقدان، على دعوة الحياة وتسمح بالبقاء في اتصال معها، حالة تعترف بالفقدان، ومن دون أن تكون سعيدة، تبدو غير مغلقة على فرح تملّكٍ مقبل وممكن».
لكن أكثر ما يشدّنا في هذا الكتاب هو فصل «إلغاء الحدود» الذي كتبه كاديفار وأخرجه على «مسرح الأوديون» في باريس عام 2012، ويرتكز على اليوميات التي خطّها بيكيت خلال سفره إلى برلين (1936 – 1937)، فزار متاحف عدة، تحت تأثير بروست، وتأمّل لوحات رامبرانت وفيرمير وجورجيوني ومساتشيو، وافتُتن بالمنمنمات الهندية في متحف «بيرغام»، مثل رامبرانت قبله. سفرٌ في ألمانيا الهتلرية الكئيبة، لن يلبث أن يتحوّل إلى مدخل ودافع إلى أسفار عدة ومن نوعٍ آخر، لأن المتاحف فضاءات خاصة تفجّر الحدود، ويقول كاديفار عنها: «في أماكن الارتحال هذه التي تحتضن أعمالاً فنية ووثائق تاريخية من أمكنة أخرى، أشعر بإلفةٍ مهما كانت المدينة التي أكون فيها. إنها وطنٌ للمسافر الغريب مثلي […]. افتُتنت باكراً بأولئك الناس الذين يتسكّعون بصمتٍ في هذه الفضاءات، متلصّصين بحميمية على ما هو معروض فيها، كطائفة من البشر الذين يجمعهم بسلامٍ رابطٌ ملموس وعميق».
ومن بين المتاحف التي زارها كاديفار في برلين، وتوقف ملياً عندها في كتابه، «متحف الفن الإسلامي» الذي توجد فيه بوابة قصر «مشاطة» الأردني التي أهداها سلطان عثماني للإمبراطور غييوم الثاني في مطلع القرن العشرين. متحف اقترح مديره على كاديفار إخراج إحدى مسرحياته في فضائه، ما يوقظ فيه الرغبة في العودة إلى إيران، وإلى أصفهان تحديداً، حيث سيكتشف جداريات قصر «شيهيل سوتون» التي تستحضر في مخيلته بوابة قصر «مشاطة»، فيقرر مزاوجة رسومهما في ديكور مسرحيته على خلفية معزوفة للموسيقي التشيخي لييوش ياناشيك. ولإخراج مسرحية عن الهجرة والارتحال، عن لقاء الشرق والغرب، أيّ مكان أفضل من هذا الفضاء؟
عن عمله المسرحي هذا، يقول كاديفار في كتابه: «كان عليّ أن أزور وأعمل مجدداً على جداريات قصر «شيهيل سوتون». كان عليّ أن أفكّر من جديد في وقعها عليّ، والكتابة عنها وإسقاطها على واجهة بوابة «مشاطة»، وكان عليّ أيضاً استيعاب روعة هذه البوابة، وإبراز حضورها من دون أن أسمّيها، لأنه يجب عدم تسمية ما يُرى في المسرح، وبالتالي التحدث عنها بصفة الغائب. والغائب كان اسمها. الغائب كان الشرق الذي أتت هذه البوابة منه. الغائب كان الصحراء في قلب مدينة برلين».
هكذا، تحلّ في نهاية كتاب كاديفار مصالحة مع الأصول من خلال لغات أخرى غير الفارسية، وفضاءات أخرى غير إيران، ضمن تفحُّصٍ عميق للعلاقة بين الهوية والغيرية.
لكن أهمية هذا النص المكثّف لا تكمن فقط في عثورنا داخله على مراحل تشييد فنانٍ وكاتبٍ معاصر لذاته، بل أيضاً في أسلوبه السيّال الذي تتنوّع داخله الإيقاعات والنبرات، وفي لغته الفرنسية الحسّية والدقيقة التي لا نبالغ إن شبّهنا التواءات جملها وتشابكاتها بالتفافات أغصان الكرمة الحاضرة على بوابة قصر «شاطة».
المصدر: الحياة