بيني وبينك.. الرّأي والشّجاعة

- بيني وبينك.. الرّأي والشّجاعة - 2025-06-10
- بيني وبينك.. الطّبع والتّطبُّع عند المتنبّي - 2025-05-21
- بيني وبينك.. الصّبرُ دواء - 2024-11-13
الرأيُ ملكُ صاحِبه، صورةُ عقله، نَفَثاتُ صدره، ما خبأه في تصوّره، وما باح به لِسانُه، وهو مُقدَّم مُوجَّب، وأهل الرأي أهل الحُظوة عندَ أصحاب القرار، فلا قرار دون رأي، ولا رأي دون عقل، ولِذا كانوا يُسمّونهم أهل الحَلّ والعَقد، لا لِضخامة أجسامهم، ولا لقوّة أبدانهم، ولا لوجاهة أنسابهم؛ وإنّما لِنَفاذِ عقولهم، وكانَ صاحبُ الرأي يُقدّم على ألفٍ مِمّن لا قُوّة لديهم إلاّ سيُوفهم. وكان سيّد الخلق، يقول: «أشيروا عَلَيّ أيّها النّاس». يقصدُ أهل الرأي الّذين هم أهل العقل.
والرأي معرفة، وعلمٌ، وعقيدة، فأمّا المعرفة فتقودُ إلى الصّواب، وأمّا العِلم فيُجنِّبُ الخَطَل، وأمّا العقيدة ففضيلة رافِعة. وصاحبُ الرأي ينبغي أنْ يكون صاحبَ عزيمةٍ، ولمّا كتبَ عيسى بن موسى إلى أبي جعفرٍ المنصور:
إذا كُنْتَ ذا رأيٍ فكُنْ ذا تَمهُّلٍ
فإنّ فَسَادَ الرأي أنْ تتعجّلا
ردّ عليه أبو جعفرٍ:
إذا كُنْتَ ذا رأيٍ فكُنْ ذا عزيمةٍ
فإنّ فَسَادَ الرأي أنْ تتردَّدَا
والثّاني أوقعُ في المعنى من الأول، فهو يتّسق مع قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فإذا عَزَمْتَ فَتَوَكّلْ على الله».
وَمَنِ المُقدّم الرأي أم الشجاعة؟ إنّ في ذلك لعبرةً مِن حديث بلقيس مع أهل الرأي في بلاطها، وذلك قولُه تعالى: «قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّىٰ تَشْهَدُونِ قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ». وانظر كيفَ طلبتْ منهم المشورة، وأرادَتْ رأيَهم وعقولهم، ثُمّ انظر كيفَ أجابوا وقد نَحّوا قُوّة العقل ومَضَوا إلى قُوّة الجسد، وما دروا أنَّ قوّة العقل أنفذ وأوقع، والدّليل أنّها لم تأخذْ بما قالوا، ومضتْ برأيِها تُحاول أمرًا غير القُوّة والسّلاح، أرادوا أنْ يتقرّبوا إليها بإظهار شجاعةِ سلاحهم، وغفلوا عن أنّ شجاعة الرأي والعقل أولى بالتّحكيم من شجاعة الجسد.
والرّأي يكون في موضعه وفي زمانه، وهو نِتاجُ العقل البصير، ولَماحة الفُؤاد المُنير، فما فائدة أنْ تقولَ رأيًا صوابًا في غُمّة بعدَ أنْ تنجلي؟! إنّما تُجابه الغُمّة، وتُكشَف الضّرّاء بالرأي في أوانِه وإبّانه، ولهذا قالوا في الأمثال: «شَرُّ الرأيِ الدَّبَرِي»، وهو الرأي الّذي يسنح ويأتي بعد فوات الأمر، مأخوذٌ من دُبر الشّيء أي آخِره، كما في حديث معاذ بن جبلٍ: «لا تَدَعَنَّ دُبُرَ كُلِّ صلاة أن تقول: اللهم أَعِنِّي على ذِكْركَ وشُكرِك وحُسْنِ عِبادتِك». أي في آخر كلّ صلاة.
وإذا كانتْ شجاعةُ العقل مُقدّمة على شجاعة العَضُد، فإنّ الخير يكون في اجتِماعهما، وإنْ كان اجتماعهما لا يتأتّى لكلّ أحدٍ، لأنّه مَنْ حازَ واحدةً فقد الأخرى، وعلى هذا مُعظم الفلاسفة، ومصداق ذلك قول المتنبّي:
الرأيُ قبلَ شجاعةِ الشُّجعان
هو أوّلٌ وَهْيَ المَحَلُّ الثّاني
فإذا هُما اجتَمَعا لِنَفْسٍ مرَّةٍ
بَلَغَتْ من العَلْياءِ كُلَّ مكانِ
AymanOtoom@
otoom72_poet@yahoo.com
**المصدر: جريدة “الراية”