«بَيت جنّي» مجموعة قصصية للعراقي حميد الربيعي : الفَضَاء الحكائي مِن الواقعي إلى المُتخيَّل

الجسرة الثقافية الالكترونية
*مروان ياسين الدليمي
يشتغل حميد الربيعي ــ بمنطقة التخييل ــ في مجموعته القصصية الاخيرة المعنونة «بيت جني» الصادرة عن دار نشر أمل الجديدة بطبعتها الأولى لعام 2015، وهي منطقة فنية خالصة في المشغل الإبداعي، في حقيقتها تعد جوهر ما يشتغل عليه المبدع عندما يبدأ التفكير في مشروعه، من خلالها يعيد تركيب الواقع وفقا لخصوبة مخياله الإبداعي، وكلما كان انحيازه أكثر قربا وانتماء إلى التخييل في إعادة صياغة مفردات الصورة الواقعية المختزنة في ذاكرته، بدا نتاجه أكثر قربا من خاصية العمل الفني، بإعادة تركيب العالم وفقا لرؤية الكاتب أو المبدع .
السرد والواقع
طبيعة العلاقة بين النص الأدبي السردي والواقع تتسم بالتعقيد والتداخل، ولا يمكن لأي منها أنْ ينأى عن الآخر وأنْ يكتمل حضوره بعيدا عن الآخر. فالعلاقة بينهما جدلية، تحمل في داخلها الكثير من صور الجذب والتجاذب والتداخل والتقاطع والتواشج، إلا أن المبدع ــ وحده ــ هو الذي يحدد شكل هذه العلاقة ويضعها في الإطار الذي تقترحه رؤيته، ولا يخضع بذلك لشروط الواقع مهما كان منتميا ومخلصا وحميميا في علاقته به.
من هنا تتضح وتتكشف حقيقة العلاقة الفنية، في خصوصية الخالق المبتكر، من خلال الشكل الفني الذي يرى فيه الأشياء بدون أن يكون خاضعا للصورة الظاهرة والمنتجة من قبل الواقع المرئي المُعطى.
فالكاتب/المبدع عندما يتفاعل مع ما يراه ويشعر به من أشياء تحيط به لا يكتف بعملية إعادة الإنتاج، بل ينعطف بعيدا بما وصله من إيحاءات وإشارات وصور وأصوات إلى أعماق ذاته التي تتشكل من طبيعته الإنسانية العامة ومن خاصيته الفردية، باعتباره مُبتكرا يرى العالم على غير الصورة التي تصله، بينما يراها غيره بما تصل إليه، لأنه خالق ومخلوق في آن، فهو خالق لذاته في تفاعله مع الحياة قبل أن يكون خالقا للموضوع الذي يتفاعل معه.
من هنا كانت رؤية الربيعي الفنية بخاصيتها التي تعامل بها مع الواقع، عندما أعاد خلقه، فأنتج لنا واقعا جديدا لا صلة له بالواقع المُحفِّز.
في الوقت نفسه هذا الواقع المُختَلق هو الأكثر تعبيرا عن ذات الخالق المبدع، وعن جوهر الواقع أيضا وخفاياه العميقة وأسراره التي لا يبوح بها إلا لمن يمتلك مفاتيح خاصة به ــ أدوات وتقنيات ورؤية ــ في التعامل معه.
اللغة بين الشعر والسرد
نحن في هذه المجموعة القصصية التي تتألف من 15 قصة قصيرة، نقف أمام عالم مبتكر أنتجته مخيلة جامحة لكاتب يملك قدرة متفردة على رؤية الأشياء من زوايا غير مألوفة، وحريص على أن يكون ساردا ــ برؤيته ــ قبل أن يكون ساردا باللغة، مع ان لغته تملك من الطاقة الشعرية ما يجعلها تبدو وكأنها تحاول التمرد على لغة السرد، إلاَّ أن الربيعي لديه من المجسات الذاتية التي تجعله قادرا على التحكم بها في المساحة التي يريدها أن تكون ليست بعيدة عن شعريتها بما يكفي وليست قريبة جدا منها بما يكفي. لكنها يجب أن تكون لغة ساردة بالقدر الذي تكون فيه وظيفتها السرد بالكيفية التي يريدها أن تكون لغة سرد.
خَلق الواقع
المضامين التي قدمها الربيعي تصدت لقضايا تحيط بالكينونة الإنسانية في لحظات تكون فيها الذات أمام منعطفات حادة من وجودها، وتشكل المرأة محورها الرئيس، بحضورها الإنساني وليست أيقونة للشهوة والمتعة مُجردةً من المشاعر والأحاسيس والخصوصية. لكن المضامين، على الرغم من انشغاله بها، لم تكن في مقدمة أولويات مشغله السردي وهو يتصدى لها، بقدر ما كان مُنشغلا في خلق زاوية النظر أو التبئير ــ كما يصطلح عليها جيرار جينت ــ التي يرى من خلالها ويعكس عبرها خصوصيته كمبدع عندما يتصدى لتلك المضامين كما في قصة «انتشاء» التي طرح فيها إشكالية العلاقة بين المرأة والرجل في مجتمع معاصر محكوم بقيم البداوة، فلم يكن أمام الربيعي إلا أن يأخذ هذه القضية من فضائها الواقعي إلى فضاء دلالي ليعيد بناءها وفقا لمنظوره الفني في رؤية هذه العلاقة بكل ما تحمله من صور الانتهاك والتدمير لإنسانية المرأة، وذلك عندما أنسن صورة المرأة العارية المرسومة في لوحة تشكيلية معلقة في بيت رجل بدوي، ترك البعران في الصحراء ليقيم في العاصمة، وليجعل صورة المرأة هي الشخصية الساردة للأحداث: «أشعر بقرف، رغم أنني أتبوأ مكانا مرموقا في البيت، هذا القرف لم يأت دفعة واحدة، لقد تسرب رويدا، في الليالي الأولى كان اشمئزازا مما يجري، كنت أترفع عنه بإغماض العينين، فلا أبصر ما يحدث بعد اللقطة الأولى».
وهكذا أيضا عندما تصدى لقضية التاريخ الذي «يحفظه الدارسون عن ظهر قلب ولا تتاح لهم الفرصة بأن يبصروا ويضعوا أسئلة الامتحانات من الزمن الحديث، كأنهم يعرفون أن العلة تكمن في النسيان» لتتجلى مخيلته بشطحاتها الجميلة، وهو يقدم لنا صورة عن صراع الأجيال بأفكارهم ـ الأب والابن ــ في معادل موضوعي، عبّر عنها في صورة الغسالة التي وضع فيها الابن كتب التاريخ.
من خلال هذه الرؤية أراد الربيعي أن يعيد تركيب الصورة الواقعية بصورة غير واقعية ليعكس من خلالها قناعته التي يؤكد فيها أن جدية وقائع التاريخ لن تصمد أمام جدية قراءتنا له التي استعار لها شكلا فانتازيا: «عند تبدل الألوان في حوض الغسالة، كان الأب مندهشا لما يجري لقد أجبره أولا على شرائها ثم أقنعه ثانيا بأن غسلها التاريخ أتوماتيكيا، سوف يعيد الحياة إلى مجراها الطبيعي».
تنوع زوايا الرؤية
تكتسب زاوية الرؤية أو التبئير أهمية قصوى لدى الربيعي، وفي خيارات حضورها تعني تجاوز ما هو كائن وتعبر في الوقت نفسه عن ممكنات الكاتب الفنية في الرؤية إلى الأشياء والموضوعات من زاويته الذاتية، وهذا ما أكد عليه ولفانك كيزر: «إن القصة لا تكون مميزة فقط بمادتها، ولكن أيضا بواسطة هذه الخاصية الأساسية المتمثلة في أن يكون لها شكل ما». تنوعت زوايا الرؤية السردية في هذه المجموعة القصصصية بين السرد الموضوعي والسرد الذاتي، وهذه الخيارات التقنية فرضت حضورها في تشكيل بنية القصص، انطلاقا من طبيعة الراوي الذي يسرد الأحداث، فالسرد سيكون موضوعيا إذا ما كان الراوي قد جاء مستندا إلى تقنية الرؤية من الخلف، حسبما يطلق عليها توما تشفسكي، وكما في قصص «استبدال، وشغف، ورغبة ملحة ويازردالي «. والشخصية الحكائية وفق هذه التقنية تكون في موقع العارف بكل شيء وما يدور في خلد الشخصيات. وسيكون السرد ذاتيا من وجهة نظر الشخصية، كما في قصص «انتشاء، صانعة الأحلام، بيت جني، احتفاء»، في الوقت نفسه لجأ الربيعي إلى تقنية جعلته يتنقل فيها بين زاويا الرؤية بين السرد الموضوعي والذاتي بشكل سلس، مرَّرهُ على القارئ بنعومة وشفافية من غير أن يكون هذا التنقل مكشوفا بشكل واضح، كما في قصص «سروال وردي، ومدخرات».
المدلول ما بين المجازي والحقيقي
الربيعي في مجموعته هذه كان اهتمامه منصبا في بناء فضاء دلالي يتمكن من خلاله أنْ يُحرِّك علاماته بين المدلول المجازي والمدلول الحقيقي، خاصة أن البناء الفني لمجموع قصصه قد كرَّس حضوره من خلال الإشارة إلى الواقع عبر النأي عنه بواقع متخيل يبدو أكثر واقعية من حضوره الواقعي رغم غرائبيته، بذلك استبعد الانشغال بالفضاء الجغرافي أو المكاني. وكما يبدو فإن الفضاء الدلالي بما يرسله من صور تعبر عنه، مازال أكثر قربا إلى لغة الربيعي الشعرية منه إلى لغة السرد، خاصة أن اللغة السردية يكون تعاملها أقرب إلى المكان في مجاله الملموس مما هو في مجاله الدلالي /الصوري.
المصدر: القدس العربي