‘تاريخ روحي’.. رحلة العقل والوجدان

الجسرة الثقافية الالكترونية
*عبد الأمير المجر
منذ روايته “امرأة القارورة” مرورا بروايته “اعترافات رجل لا يستحي”، وصولا إلى روايته الأخيرة “تاريخ روحي”، ينشغل الروائي والمفكر سليم مطر، بكتابة سيرة ثقافية يمتزج فيها الخاص بالعام والوجداني بالموضوعي، وبطريقة جعلت أعماله متميزة ولها نكهة خاصة، تعكس تصوره للحياة وموقفه مما دار ويدور من حوله، سواء على مستوى الأحداث التي صيّرت شكل حياته وحياة الملايين من مجايليه، أو تلك التي أسست لصورة الكون أو منحتنا صورته التي علينا أن نتأملها جيدا لنرى أنفسنا من خلالها.
في “تاريخ روحي” نقرأ سيرته الذاتية كإنسان، صار يكتشف أعماقه من خلال قراءته للحياة بعين المثقف الذي خبرته التجربة وصقلته الأحداث التي عاشها حتى جعلته بالصورة التي هو عليها الآن، إنسان، لا يتردد في كشف تفاصيل تلك السيرة، لا لكي يعرضها فقط، بل لينقدها ويضيء جوانيَّات الحدث الذي عاشه وتفاعل معه في حينه. وبقدر ما أتاح له وعيه عند كلِّ محطة، ليعيد قراءته مرَّة أخرى، وبعين أخرى وعقل آخـر وروح أخـرى أيضـا.
لقد عمد في روايته هذه الى تأصيل رحلة الانسان، لاسيما الرافدينيّ بشكل خاص، مستعيدا المحطات الكبرى التي صنعت الحضارة والإنسان معا، وكيفيَّة تخلُّقه عبر مراحل زمنية متعددة، يغوص فيها إلى ما هو أبعد من البدايات، أي إلى زمن ما قبل تخلّق الإنسان نفسه، قبل أن ينتهي به إلى شكله الأخير، الذي ألقت به الأقدار في بقعــة مــن الأرض اسمهــا العـراق.
ومنها يبدأ بطل الرواية “سليم مطر” بسرد سيرته الشخصية التي يراها امتدادا للرحلة الطويلة تلك، حيث يتنقل بنا عبر فصول روايته التي جمعت الواقعي بالمتخيل، بين الأسطوري المدون في بطون الكتب المختلفة عن خلق الإنسان، وبين الأثر الإنساني الماثل أمام أعين الفاحصين والقارئين، وهو من بينهم بالتأكيد، وبطريقة سرد لا تخلو من الإمتاع والإدهاش ايضا، لما انطوت عليه من جرأة وكشف لتفاصيل واقعية رافقت رحلة أيامه الثقيلة والطويلة في المنافي.
الرواية جاءت على شكل قصص أو أحداث منفصلة عن بعضها البعض على مستوى الحدث، ومتصلة على مستوى الثيمة النهائية التي تبدأ بـ (الميلاد.. الأرض ما قبل الإنسان).
وهنا نعيش مع الكاتب تأمُّلاته الشعريَّة وهو يتجوَّل في جذره القديم، لتأتي حكايات “ماضي روحي” أحد الفصول الطويلة للرواية، كما لو أنها محاولة للإمساك بأذيال الأزمنة من خلال الرواة القدامى، وبما تضيفه مخيلته للمرويات تلك، ليقعّد تصوراته على أسس تعكس صورة واحدة للإنسان في كل زمان ومكان، ثم يتوقف عند حضارة وادي الرافدين التي شغلته كثيرا، وعمل على محاكاتها في أعماله الأدبية وغير الأدبية، وها هو يقف مرة أخرى ليجعلها منطلقا لرحلة ذاتية من بغداد حيث ولد وعاش مغامراته (الصغيرة) طفلا وصبيا، ومن ثم حالما بغد أفضل له ولوطنه ليركب قطار السياسة والفكر، من دون أن يدري إلى أين يتجه به!
وكعادته كان صريحا في عرض الأحداث، مشفوعة بقراءته المتأخرة لها من جديد، وكأنه أراد أن يوقظها من بين غفوة الأيام والأعوام التي مرَّت، أو يحاكمها ويحاكم ذاته من خلالها ليطهر الروح من نزق الفتوة العقلية والجسدية، التي جعلته يغادر بغداد ويبدأ رحلة من العناء لم تتوقف في بيروت، بعد أن وصلها هاربا ولن تنتهي في جنيف التي مكث فيها ليعيد قراءة رحلته، حتى عودته الى العراق بعد العام 2003 وتجواله بين الأمكنة التي شهدت مغامرات الصبي العاشق ومكابدات السياسي الشاب، بل يدفعه حنينه للذهاب إلى الموصل في الأشهر الأولى بعد الاحتـلال الأميركي، فقط لكي يرى فتاة تعلَّـق بها أيـام المراهقـة! بعد ان عرف أنها انتقلت إلى هناك.
مع هذه السطور نعيش لحظات إنسانية مؤثرة تعكس براءة العاشق الصغير حين يكون تحت مجهر المفكر والأديب الذي توجب عليه لاحقا أن يطالع ذاته بعمق ووعي كبـيرين، وحزن وألـم كبيرين أيضا! مـن دون أن تـذبــل بداخلـه بـراءة الحـب القـديم.
“تاريخ روحي” رحلة نحو الأعماق، يحتاجها كل واحد منا، لكن بعدة العقل المنفتح والمثقف الشجاع، الذي لم يخن سليم مطر وهو يدون سيرة، ربما تبدو ذاتية، لكنها بالتأكيد لامست عقول ووجدان الكثيرين ممن لم يجرؤوا على البوح.
الرواية صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر وجاءت في 224 صفحة من القطع المتوسط.
المصدر: ميدل ايست أون لاين