تجليات الذات الفاعلة في “شهوة التخفي” للكاتبة رغدة مصطفى

الجسرة الثقافية الالكترونية
أشرف سليمان*
المصدر / اتاب
لماذا الذات ولماذا نصفها بالفاعلة؟
الذات (من منظور علم النفس) الصورة التي يكونها الفرد عن نفسه، وعن الآخرين. ككيان يتملك إمكانيات وقدرات بعينها، وله ميول وحاجات يسعى إلى تحقيقها.
والذات هي فاعل ومفعول. فالأنا هي الذات التي تفكر وتعمل، أي الأنا الفاعل. أما الأنا المفعول فهي وعي الذات، بذاته، كموضوع في العالم الخارجي للأفراد.
والفرق بين الذوات الفاعلة يكمن في قدرتها على تنظيم الواقع وتشكيل خط خاص بها.
من هذا المنطلق نسعى إلى النص حثيثا، نتلمس طريقنا وسط إعصار من الصور المتلاحقة والجمل السريعة واللغة الثرية، وبحرص شديد نحاول الإمساك بهذه الذات المتمردة التي تجذبنا إلى فضاءات تخيلية تقف بين الواقع والخيال صانعة عالمها السحري قبل أن تتفتت وتذوب في الأشياء، فكأننا نرى صورنا على مرايا متكسرة تعكس كل قطعة منها زاوية تصوير مختلفة.
العنوان
وحين نلج النص من العنوان، باعتبار العنوان مدخلا مؤسسا لأية قراءة مفترضة، ونصا موازيا يختزل النص الأصل، وأول ما يتماس معه القارئ، ومحددا أساسيا لأفق انتظار ما، كإطار مرجعي، قرائيا، نجد العنوان (شهوة التخفي) جملة إسمية مختزلة (بدون مبتدأ) محددة في تركيب إضافي يكسب المعنى الملتصق بالذات (شهوة) الدافع الأساسي لحركة الذات في النص ومبررا لأفعال لاحقة في النص، ويقدم لنا المضاف إليه (التخفي) التخصيص والتعريف بماهية الشهوة.
النص
ـ الراوي في النص
على مستوى القصة ينهض الراوي بالوظيفة السردية، وهي الوظيفة الأساسية لكل راوٍ، أما على مستوى النص السردي فهو يضطلع بمهمة التنظيم الداخلي للخطاب، فهو “القائم بتنظيم الخطاب وتوجيه الرؤية”.
وهنا ثمة إشكال وجب طرحه بقوة، من يحكي؟
لا شك أن الكاتب هو المؤسس الأول للكون السردي، لكن يبدو أن ثمة صوتا آخر يمارس حضوره في تشكيل النسيج النصي، وهو الراوي (الذات) المعبر عنه بضمير المتكلم هنا أن الذي يتكلم في القصة ليس هو من يكتب، وأن من يكتب ليس هو الكائن الحي، فالراوي متبنى من طرف المؤلف (وهي إحدى استراتيجيات النص السردي) وكان التعبير عنه بصيغة الضمير المتكلم متسقًا مع رغبة التخفي وإن كان غير متنازل عن رغبة الفعل
(سأتخفى/ سأتخلى / أتجلى/ أستمتع/ أنتظر/ أختم / أتفتت………).
ـ البداية
“في حياةِ موازيةِ، سأتخلى عن هيئتي البشرية اشتهاءً للتخفي، لا زُهدًا في الحياة. ربما سيبدأ الأمر زُهدًا في لحظةِ نبيلةِ للحزن. لكن، ومع تقلبات النفس، سيغريني اللهو لا محالة مع قلة الصبر على بلوغ الحكمة من الصمت والعزلة”.
ـ جملة فعلية منقلبة تبدأ بـ شبه الجملة المتعلق بالفعل (في حياة موازية.. سأتخلى).
تبدأ الذات الساردة حركتها في انسياب لا يخفى.. قلق نابع من خوض تجربة جديدة.. توتر نابع من بنية لفظية معتمدة على حروف متأرجحة بين النفي والإثبات.. الترجيح واليقين..
(لا العاطفة, ربما, لكن, لا النافية للجنس “لا محالة”) وهو توتر طبيعي من أي إنسان مقبل على تجربة جديدة، فكيف وهو يلج عالما كاملا غير مطروق.. ومع ذلك لا تستسلم لهذا القلق بل تتخذ القرار (سأتخلى) وتتوقع النتائج المشجعة (سيغريني, اللهو, بلوغ).
ـ الذات الفاعلة
“سأتخفى وأتجلى عصًا في يد حاكم عسكري. كلما همَّ بتوجيه أوامر لحاشيته، مشيرًا بها كامتداد لإصبعه القصيرة، أو ملوحًا بها وهو يُخاطب الجموع بكلمات جوفاء، اهتزت العصا رقصًا، واهتز الحاكم من ورائها جراء سعيه المحموم لتَملُكِها. وبينما يتحول أفراد حاشيته لبالونات منتفخة بالضحك المكتوم خوفًا، تضج القاعة بضحك الجموع الماجن، حتى يتسلل الأطفال للّهو بالبالونات المنتفخة، بأصابعهم الصغيرة كإبر الخياطة، فتنفجر في وجه الحاكم الراقص”.
* (سأتخفي وأتجلي) من هنا تبدأ الرحلة سريعا بعد المقدمة التمهيدية تنطلق الذات إلى عوالم متعددة تبدأ بفعلين متعاقبين متكئين على ضمير المتكلم الذي ترك لنا أثرا قويا باقيا في الفعل (الهمزة) له دلالة الثقة والقوة التي تتسم بها تلك الذات.
* والفاعلية في هذه الذات تمثلها بنية نصية تعتمد على توالي الجمل الفعلية القصيرة، مما يجعل الأفعال متلاحقة (31 فعلًا) (سأتخلي……… أتفتت).
تبدأ بالتخلي عن الواقع وتنتهي بالتفتت في فضاء العالم الموازي محققة إرادتها الحرة. وتبدأ ببناء ملامح هذا العالم الموازي من رفض الواقع وهدم أسسه المرفوضة بل والممقوتة.
* تجليات الهدم: وتبدأ تلك الذات في رفض الواقع على مستويين متصاعدين من خلال هذا الواقع بكل ما فيه من صفات ممجوجة مقيتة، من خلال ثلاث صور تصف بهم هذا القهر من خلال صيغة اسم الفاعل…
(حاكم / قاتل / المنتشين)..
“أتجلى ذبابةً لعيني قاتل. تُذهِب بدورانها المتواصل تركيز عقله، مع طنينِ مستفزِ يُحيل صمته المتربص لغضب أهوج، يُمكن فريسته من الهرب.
أتجلى أشواكًا لزهرة. أستمتع معها بوخز الأصابع، وإسالة قطرات دماء صغيرة من هؤلاء المنتشين بالعطر، لأُذيقهم لذة الألم مع السُكر”.
مستوى الواقع الاجتماعي
الواقع المتسلط, المفقد للحرية، المزيف، القاهر للإرادة، غير المقنع، المنافق (حاكم عسكري / توجيه أوامر / كلمات جوفاء / تَملُكِها / الحاكم الراقص).
مستوى الواقع الإنساني العام
الإنسان الفاقد للرحمة, المتخلي عن إنسانيته, النفعي, الانتهازي (قاتل / المتربص / المنتشين بالعطر).
ولم تكتفِ تلك الذات بفعل الرفض غير المباشر، بل سعت إلى الانتقام من هذا الواقع بشكل ساخر أحيانا ومهين أحيانا أخرى.
فالحاكم يصبح “بالون” ينفجر على يد أطفال صغار / والقاتل يغلبه طنين ذبابة/ والمنتشي بعطر الورود النفعي يسيل دمه بشوك نفس الوردة..
(البالونات منتفخة / بالضحك / الجموع / تنفجر / ذبابةً / شوك / الألم / دم).
* تجليات البناء: ثم تنطلق الذات في تجليات البناء لتحاول أن تصبح سببا لسعادة كل الذوات الأخرى، صانعة عالما مبهجا، ولم تكتفِ بعالم مرسوم تزينها بريشتها اللونية، بل تكون هي مادة الصنع والبناء، هي صانعة البهجة، ترى نفسها في الآخرين، تتناثر، تصبح لون الفضة وعذوبة الماء، واليد التي تعين، والحلم الملون ولعبة الأطفال.
“أتجلى خلخالًا فضيًا. يرن بقدم فتاة خجول. يُغريها وقع خطاه، فتستسلم لجمال الخطو بدلال وخطره، وهي تتلمس طريقها من طفلة لأُنثى.
أتجلى شربة ماء في جوف أمي، أختتم بها صيامًا قد طال. وأتجلى عكازًا لأبي يتوكأ به على سنين جاحدة قادمة”.
(أتجلى خلخالًا فضيًا / أتجلى شربة ماء / وأتجلى عكازًا / أتجلى حُلمًا ملونًا / أتجلى صلصالًا في أيديهم).
* مما يعكس الرغبة في الحياة وشهوة التغيير للأفضل والتي غلبت الرغبة في الانتقام تكررت بنية (أتجلي) في الهدم ثلاث مرات وفي البناء خمس مرات.
* كما تعكس البنية اللفظية اهتمامًا خاصًا بالعناصر الإنسانية المتسمة بالبراءة (فتاة خجولة / أمي / أبي/ أطفال).
تجليات الذات الفاعلة انطلاقا في فضاء العالم الموازي
تطبيق
زمن الخطاب السردي
إن الزمن هو أكثر العناصر السردية تجليا في الحكي، وهو في الوقت نفسه أكثر العناصر السردية تعقيدا لاسيما في النصوص الحديثة التي تتأسس على فعل التلاعب الزمني، من خلال كسر النمطية الزمنية التقليدية، وإقامة فضاء معقد ومتداخل، صحيح أن كل حركة لابد أن يستوعبها فضاء مكاني معين، لكن يمكن إخفاء المكان لغويا، في حين يتعذر إخفاء الزمن، لأنه لابد من حكايتها في زمن الحاضر، أو الماضي، أو المستقبل.
وهنا تلاحظ من خلال تتبع الزمن مفارقة غريبة:
1ـ الأفعال في زمن المستقبل (4 أفعال) (سأتخلى/ سيبدأ / سيغمرني/ سأتخفى).
2- الأفعال في زمن الحاضر (28 فعلًا) (أتجلى.. أستمتع ……………… أتفتت).
3- الأفعال في الزمن الماضي لا تكاد تذكر (فعلان فقط) (طال.. اهتز).
أفعال الزمن المستقبل وردت كلها في المقدمة، وهذا منطقي متسق مع البناء التصاعدي للنص الذي يبدأ حركته من التخطيط السابق للانطلاق، وهي صيغ مستقبل بسيطة بإلصاق (س) التسويف إلى الفعل المضارع، ثم يبدأ الانطلاق المتوالي بصيغة المضارع والتي تعبر عن الزمن الآني الحاضر وكأن الذات الفاعلة لتلك الأفعال قامت بها في اللازمن.. هنا.. الزمن = صفر وهذا يتسق تماما مع مفتتح النص (في حياةِ موازيةِ) فنحن لسنا على الأرض ولا تتحرك بنا في حركتها الاعتيادية هنا زمن الحلم لهذه الذات إذن.. أن تنطلق وتتماهى وتصبح شيئا ما بين الواقع والخيال.
“أتجلى حُلمًا ملونًا للصغار. أنتظر بشغف حديثهم عنه صباحًا، ما قد يذكرونه، وما قد يضيع.
أتجلى صلصالًا في أيديهم. أترك نفسي لخيالهم يُشكلني كيفما يشاء، أتركهم يقتسمونني فيما بينهم، لأتفتت قطعة قطعة بين أيديهم”.
………..