تجليات رواية “واحة سيوه ” لبهاء طاهر / فدوى الوراق

الجسرة الثقافية الالكترونية – خاص –
بهاء طاهر روائي وقاص ومترجم مصري ينتمي إلى جيل الستينات ، منح الجائزة العالمية للرواية العربية عام 2008م عن روايته ، ” واحة الغروب ” ، حصل على ليسانس الآداب في التاريخ ، عام 1956 ، من جامعة القاهرة .. ذلك التاريخ الذي يرى الكاتب أن الحياة المعاصرة امتداد له ، وهذا ما تنكشف عنه واحة الغروب التي نراها بسياقاتها تتكئ على التاريخ ببعديه العام والخاص .. انطلاقا من شخصياتها التي تعيش حاضرها في ماضيها.. وهذا هو البعد الخاص للتاريخ .. أما بعده العام فيتبدى في السعي المجنون لكاثرين خلف ضريح الاسكندر ومثواه الأخير
• الأجواء العامة للرواية :
تتمحور أحداث ( واحة الغروب ) وذلك في أواخر القرن التاسع عشر ، حول الضابط محمود عبد الظاهر ، الذي يعمل الاحتلال البريطاني على نقله إلى واحة سيوه ليتسلم منصب المأمور هناك ، ليعمل على جمع الضرائب المتأخرة من القبائل الشرقية والغربية القاطنة في الواحة
( والتي تراق دماء القبائل المتمردة من أجل تحصيلها في كل مرة ) وترافقه في رحلته تلك زوجته الايرلندية ( كاثرين ) . ليواجها معا عالما جديدا ، غريبا ، تسوده عادات وأعراف لا تنتمي لعالمهما المتحضر في شيء . تتنامى أحداث الرواية لتؤدي ، في نهاية الأمر ، إلى انتحار المأمورمحمود عبد الظاهر ، ووضعه حدا لحياته .
1. الشخصيات : تتنافس شخصيات الرواية على دور البطولة ، حيث أن معظمها شخصيات رئيسية ، تلعب دورا هاما في تركيب وبناء أحداث الرواية وفي تشكيل رؤاها وأفكارها وفي تنامي أحداثها . وهي في عموم الحكم ، شخصيات قلقة ، غير مستقرة ، تعاني من صراعاتها الداخلية ، وبالتالي من صعوبة خلق حالة انسجام وتوافق مع مجتمعها وواقعها .
أ- المأمور محمود عبد الظاهر :
حين تقرأ أحداث الرواية ، فانك حتما ستقع في حب تلك الشخصية والتعاطف معها والإشفاق لحالها ، فصاحبها يعاني انكسارا داخليا وجرحا نازفا لا يلتئم إلا بموته . صراعاته شتى ، خيباته كثيرة ، كان مزيجا من كل شيء ، يصلي ويقرأ القرآن الكريم في ساعة متأخرة من الليل ، وكان أيضا يرتاد الحانات ليعاشر النساء ويعاقر الخمر ، ولطالما استمع لخطابات عرابي وتحمس لها ، ولكنه في ساعة الحسم ، تنكر للثورة والثوريين ووصفهم بأنهم مجموعة من البغاة .. وحتى حين قدم إلى الواحة ، بقي محافظا على شرخه الداخلي ولم تزده صحراؤها وتحفظ أهلها إلا تقوقعا وانهزامية .
حتى الحب في حياته ، كان شيئا يشبه الحب ولا حب ، لقد كان يحمل شخصية تتطاير شظاياها في كل مكان ، ولم يجانبه الصواب حين قال : “…، المشكلة هي أنت بالضبط . يا حضرة الصاغ ! لا ينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب ونصف شرير ، نصف وطني ونصف خائن . نصف شجاع ونصف جبان . نصف مؤمن ونصف عاشق . دائما في منتصف شيء ما ” . وفي مكان آخر من الرواية يقول ، وهو يتجه في طريقه نحو الواحة ، بعد نفاذ الأمر بنقله إليها : “..، الصمت يغزوني صخبا وصورا توقظ كل الماضي _ كل الأحياء _ وكل الراحلين . ربما يكون ذلك قد بدأ حتى من قبل الرحلة . أفكر في أشياء كثيرة لا سيما في النهاية . هل أخاف الموت ؟ بالطبع ” . ويبدو أنه انتظر الموت طويلا لذلك نراه ذات يوم وقد امتطى حصانه بهدوء وسار به إلى معبد (آمون ) أم عبيدة ولما وصله أخرج أصابع الديناميت من الجرابين ، وأخذ يوزعها داخل المعبد ” يجب ألا يبقى للمعبد أثر ، يجب أن ننتهي من كل قصص الأجداد ليفيق الأحفاد من أوهام العظمة والعزاء الكاذب ، سيشكرونني ذات يوم ، لا بد أن يشكرونني ! ” .
ان موت المأمور محمود عبد الظاهر ، يشكل بالنسبة له حلا مريحا يخرجه من إشكالية الحياة .. حياته التي ورطته في الكثير من الشروخات والتشوه والتشظي ، وما تفجيره للمعبد إلا رغبة منه بالتخلص من هذه الحياة ، وبالحد من هوس زوجته الذي وصل حد الجنون . .. نعم ، لقد اختار موته ، لذلك نراه يقول حين يسمع صوتا متهدجا أجش يزعق باسمه كأنه يبكي : “…، فأقول وأنا أغمض عيني شكرا لك … لأنك تأخرت…!! “.
نعم ، لقد تحققت نبوءته . فمنذ لحظة ارتحاله الأولى للواحة ، كان يرى فيها معادلا حقيقيا لموته القادم .
ب- كاثرين :
زوجة المأمور محمود الايرلندية ، جمعهما الصدفة واحتلال الانجليز لكل من ايرلندا ومصر ، مما جعلهما يستشعران كرها مشتركا للمحتلين . قدمت كاثرين لمصر سعيا وراء شغفها بالآثار وحين التقت بالضابط محمود للمرة الأولى على جسر الدهبية أبت مفارقته ولا زمته حتى تزوجا . وعلى العكس منه كانت فرحة جدا لتكليفه بالعمل في نفس الواحة التي زارها الاسكندر الأكبر وقضى فيها ردحا من الزمن . في بداية زواجهما كانت تشكل له طوق نجاة من انكساراته الداخلية ولكنها وبعد رحيلهما إلى واحة سيوه ، وبسبب ولعها بمطاردة أثار الاسكندر الأكبر ، تحولت الى حبل غليظ التف حول عنقه وأودى به إلى حتفه . وكان ذلك القشة التي قصمت ظهر البعير . تتميز شخصيتها بالبرود بالرغم من محاولات الكاتب أن يضخ فيها دماء حارة وحياة .. إلا أنها تقاوم ذلك لتعود كما هي باردة مهووسة بأن تصل إلى كشف تاريخي يتعلق بالاسكندر الأكبر .وبالرغم من أنها الشخصية الثانية بعد المأمور محمود ، إلا أنها لاتتمتع بكثافة حضوره وزخمه ، وأتساءل هل هي شخصية حقيقية أم أنها متخيلة ابتدعها الكاتب لتمسي معادلا أنثويا لمحمود عبد الظاهر ، معادلا شائها تبدت حقيقته وتكشفت حجبه لحظة زيارة مليكة ( الغولة ) لها في المنزل .. ولكن وبعد معاودة التفكير ، لقد خدمت كاثرين هدف الكاتب في الإشارة للبعد التاريخي للواحة ( مما أضفى على الرواية فخامة وجلالا ) والى الكشف عن التوحد الإنساني الذي يربط بين العالمين الغربي والعربي .. إن كاثرين ليست زائدة عن الحاجة ولكنها ضرورة ملحة للرواية .
ت- مليكة ( الغولة )
هي من فتيات الواحة ، كانت تملك جمالا خلابا وعقلا ناقدا زوجتها والدتها لرجل يكبرها رغما عنها ، وحين توفى ، أعادها أهلها لتقيم من جديد مع والدتها ، وكان محظورا عليها مغادرة غرفتها لان الأرملة يجب أن تنتظر طويلا حتى تتطهر الروح ، التي تلبستها وجلبت على زوجها الراحل الموت ، تظل الأرملة أو الغولة حبيسة المنزل لمدة أربعة أشهر وعشرة أيام ، ومن يراها خلال هذه الفترة لا بد أن يصيبه الهلاك لأن ملاك الموت يتقمصها .
ولأن مليكة كانت تحمل بين جنبيها روحا متمردة ، فقد خالفت القوانين وغادرت المنزل وسعت نحو منزل المأمور لرؤية زوجته كاثرين والتحدث إليها ، ظنا منها أن زوجة المأمور لاختلافها عن أهل الواحة بما يحملونه من اعتقادات بائدة ، قادرة على إنقاذها ومساعدتها .. لكن سارت الأمور على غير ما تشتهي .. وكانت النتيجة افتضاح أمر خروجها من المنزل وانتشار البلبلة والذعر في الواحة لأن اللعنة غادرت مكمنها . ماتت مليكة فيما بعد بطريقة غامضة ، دون معرفة فيما إذا كانت قد انتحرت فعلا، كما ادعت والدتها أم أن موتها كان مدبرا ، بسبب مخالفتها للقوانين الاجتماعية ، وللتخلص من الشر الذي كانت تحمله كما أشيع .
مليكة ، ضحية بريئة لقيم الجهل والتخلف وعقلية الظلام .
ت- الشيخان صابر ويحيى :
أعضاء في مجلس الأجواد ، وهو المجلس الأعلى الذي يحكم القرية . أما الشيخ صابر ، فهو من الشرقيين وهو الزعيم ، ويطمح لأن يصبح عمدة الواحة . أما الشيخ يحيى فهو خال مليكة وهو من الغربيين ويتصف بالطيبة ، وبرفضه للنزاعات والخلافات المهلكة بين قبيلتي الشرقيين والغربيين . تدور بينه وبين الشيخ صابر معركة خفية ، وينتهي الأمر به أن يعتزل الناس في حديقة منزله ، راغبا عنهم ، وذلك بعد مقتل مليكة الغامض .. مليكة التي أحب ورافق وكان يرى فيها منذ طفولتها ، تمرده ورفضه لكل قيم الحرب والقتل والدمار .. كانت نبتته البرية التي نمت وترعرعت أمام ناظريه .. لتغتالها فيما بعد أعراف الشرقيين والغربيين الممعنة بالبداوة والجهل والتخلف الإنساني .
الشيخ يحيى ، ضمير واحة سيوه ، الذي أخرسه احتكام الجميع لمنطق المادة والقتل والرفض لإنسانية الإنسان ..
ج- أما بقية الشخصيات فقد جاءت رافدة ومساندة للشخصيات الرئيسة ، وعاملا من عوامل احكام بنائها ، لم تأت عبثا وإنما كان ينبغي أن تكون لتضيء ولتعمق فهمنا لشخصيات الرواية ولأحداثها : نعمة السمراء ، الشاويش إبراهيم ، سعيد باشا وغيرهم ، كل هذه الشخصيات من صلب البناء الفني المحكم لهذه الرواية .
ح- الحكم على النص :
الأسلوب :
منذ البداية سيطرت الأحاسيس والمشاعر السلبية على النص ، فقد جاءت الشخصيات يائسة ومحبطة ، وذلك عائد الى خلفياتها الاجتماعية بما فيها من تجارب مسبقة مليئة بالخيبة والانكسار ، مما يؤكد لتا القدرة اللامتناهية للكاتب على الإيصال للمتلقي وللتأثير عليه في آن معا ، وليس ذلك فقط ، بل انه استخدم وبحرفية عالية تراكيب لفظية وعبارات مؤدية للغرض ، تحمل في جوانيتها إيقاعا صوتيا وتناغما داخليا يشف عن المعاني الانفعالية ويعبر عنها بتلقائية وعفوية خالية من الصنعة والتكلف .
لقد طوع الكاتب لغته وروضها لتلعب دورا تواصليا حقيقيا يشد بلب المتلقي ويجبره على مواصلة القراءة والتلقي دون انقطاع . لقد حقق بهاء طاهر ، معيار اللغة الحقيقي لدى ( هيدجر ) في أنها التي يرتحل الإنسان من خلالها من العجمة إلى الفصاحة ، ومن الدال إلى المدلول .
لقد تحولت الرواية بفضل تمكن أسلوبه الى نصوص بأصوات متعددة ، تحمل القارئ على أن يكون متنبها واعيا جاهزا للانغماس في تفاصيلها وعوالمها المدهشة العجيبة .. مضامينه جديدة قديمة ، وكأنه يحثنا على الخروج من نسبية المعنى لاطلاقيته ، وعلى ضرورة إسقاط ما نقرأ على لحظتنا المعاشة ، لنخرج بفهم معاصر وحديث للأشياء ، فثورة عرابي مثلا ، التي طالما أرقت محمود عبد الظاهر ، لم تعد أزمة خاصة به فقط ، بل تحولت لأزمة حالية وشخصية : فما هي الثورة ؟ وعلام نثور ؟ وكيف نثور ؟ ولماذا ؟ أرق الشخوص ، حسها بالهزيمة وجزعها من المجهول ، ورغبتها بالاستكانة والسلام ، كل ذلك ، انتقل إلينا ، وكأن القارىء والمتلقي بالنسبة لبهاء طاهر ، هو شخصية إضافية من شخصيات الرواية ، يحيا ويعيش معها
ان تناوب السرد ، وتعدد الأصوات لشخصيات الرواية ، جعلها أكثر تأثيرا وقربا وحميمية ، وخلصها من الرتابة ومنحها جدة وطرافة . وأدى بالشخصيات لأن تنتقل بحرية تامة داخل أجواء الرواية من الحاضر للماضي ومن الماضي للحاضر دون معاناة . ولكن طاهر جعلها شخصيات قاصرة فلا غد لها أو مستقبل ، لقد أنهكها بتكثيفه للحدث وتنميته له مما أربكها وأبعدها عن الأمل ، باستثناء كاثرين ، تلك الباردة المحايدة الأنانية .
الخيال :
قبل شروع بهاء طاهر في كتابة الرواية ، اطلع على العديد من المراجع ، وقد لفت نظره حقيقتان تاريخيتان (جعلهما محوران أساسيان لروايته ) :
1- علاقة المأمور محمود عزمي بما حدث لمعبد أم عبيدة ، في عام 1897 .
2- نظرية الباحثة اليونانية ( لينا سوفالتزي ) القائلة بوجود مقبرةا لاسكندر الاكبر في واحة سيوه ، وذلك بعد شروعها في التنقيب في الواحة عام 1989م .
استنادا الى هاتين الحقيقتين قام الكاتب ، بتفعيل الخيال وبتحويله الى محطة لتوليد الشخصيات والاحداث . (1)
ولإنتاج دلالي فكري للعديد من القضايا مثل : الثورة ، الحب ، الموت ، الخيانة والسلام .. قضايا استطاع الخيال أن يثريها وشخوصها من خلال سبك متين ، ومن خلال قدرته أيضا على تحريك الأحداث وتصعيدها بسلاسة وانسيابية .ان أحداث رواية ( واحة الغروب ) بسيطة وعادية ، لكن بهاء طاهر وما يتمتع به من قدرة عالية على الخلق والإيحاء ، توصل الى ابتداع شخوص ارتقت بالنص الى أعلى إمكاناته وأجملها على الإطلاق .
عوالمه جميلة ، ثرية ، موحية ومؤثرة ، تزد حم بالأساطير والحكايا العجيبة ، هي سارة في أن ، موجعة في أحايين أخرى . شخوصها حرة طليقة ، لكنها لا تستطيع انفلاتا عن خيوطه الرقيقة الشفافة ، التي تعيدها إليه حين يريد !!
الهوامش :
(1) هاشم غرايبه ( حبة قمح )
الجمعة 20/6/2014م