تحت الضوء – \”مدينة في السماء\” لعيسى مخلوف الطائر يحلّق فوق مآسي الكون وجمالاته

الجسرة الثقافية الالكترونية – وكالات – مي منسي -هو المحملق في قلب الظلام، مستمعا إلى صرير تراجيديا الانسانية الحمراء، ذاته يقف في الضوء مأخوذا بقوة الجمال الذي يتحدى الزمن والموت. الكلمة التي يحفرها عيسى مخلوف في بدن صفحاته، ليست من فصيلة النظريات للمقارنة بين العتمة والضوء، لا. ففي جبلهما في ذاكرة التاريخ القديم والحديث، استل هذا الشاعر ريشته ليقاتل بها مدمّري البشر والحجر، وهو على بيّنة أن معركة فكرية، أدبية، لا تقاوم شرّ الحروب والأرهاب، ولا تُخجل مدنسي المقامات الفنية التي سكبت جمالا على مدن العالم. لكن هذا المسافر في أعماق ميراثه الفكري، السائح في أقطار العالم متزوّدا حضارات الشعوب، وفي المتاحف يروي بئره بآيات من وحي إنسان زال وبقي إرثه ناضحا بإسمه، يعرف أن صاحب الفكر والقلم منذور لأن يكون شاهدا على الخير والشر، مطلعا لا مستخفا، منيرا لا عابر سبيل على الأرض، يشعل بقلمه ثورة فكرية وإنسانية على مساحة أوراقه البيضاء.
“مدينة في السماء” الصادر عن “التنوير للطباعة والنشر والتوزيع”، هو زاد للتأملات في ليل الأزمنة ومآسيها المضرجة بتاريخ العبودية والثورات المطالبة بالعدالة المستحيلة، كما بشحيح من الأمل كلما همّت الانسانية ببلوغ الضوء. وإذا هام الكاتب في آية فنية، ووقف أمامها مندهشا، لمسنا نزفا من جرح لا يندمل، ولا سيما حين يكتب: “العبيد هم الذين بنوا أميركا. العبودية جاءت مع مجاري الأنهار وفي عروق البشر. أهرامات مصر بناها العبيد. لا بد من عبيد لبناء الحضارات الانسانية، لا بد من حروب ودماء. قد نجد في الفن بعض العزاء، لكن ماذا لو كانت كل تحفة فنية تتكئ على جريمة وعلى آلام عظيمة؟ كأن ليكون الجمال ينبغي أن تراق دماء كثيرة”.
عيسى مخلوف هذا الطائر المحلّق فوق مآسي الكون وجمالاته، جمع في كتاب صغير روح هذا الكوكب الحي الذي نعيش عليه، حتى إذا بادرنا في مطالعته سمعنا قبل الكلمة المكتوبة بحبر أحمر، نشيدا طقوسيا مقتلعا من آيات الأرض وآفاتها، من سنابل قمحها وعوسجها، يعلو رتيبا من عرق العبيد بين حقول القطن.
لكل كتاب قدر يلده من رحم الوجع والرجاء ويهديه إلى القارئ مقمطا بشفافية الكلمة والنفحة الشعرية الساهرة على رحيق المعاني ورسالتها الانسانية. فالموعد مع مدينة في السماء كتب لعيسى مخلوف أن يكون حين أتى إلى مقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك حيث شغل على مدى عامين منصب مستشار خاص للشؤون الثقافية والاجتماعية في إطار الدورة الحادية والستين للجمعية العامة: “لم أكن لأتوقّع أن في هذا المقر الذي فيه تعد خرائط السلم والحرب سوف ترتسم معالم هذا الكتاب وتتبلور في ظل المدينة التي تفيض عن مساحتها وحدودها لتصبح شرفة مفتوحة على الأمكنة والأزمنة”.
في هذه المواجهة مع نيويورك وقد بدأت ملامح هذا الكتاب تتوضح شيئا فشيئا من ضباب المسافات، وفي ذاكرته أسفار وتنقيبات في التاريخ العتيق والحديث، شعر أن للمستشار الخاص في الشؤون الثقافية في منظمة الأمم المتحدة، نيات أخرى، ربما أكثر أهمية من منصبه، نابعة من نفسه، من إنسانيته البكر ثم من تلك التي عجنت بأهوال التاريخ على مد العصور، شاهدة على أحداث زلزلت الكوكب الصامد أمام جرائم البشر، يفنى في تربته الانسان ويبقى الكوكب الأزرق حارس إبداعاته حيثما وجدت.
في الدنوّ من الخبر، تتوسّع الرؤيا ويصبح المرء في محاذاته جزءا منه. فما باله عندما فتح عينيه على المدينة وحجارتها، شعر بانجرار إلى السفن المحملة العبيد والأوجاع؟ كأنه واحد من هؤلاء المقيّدين بالسلاسل، الجاهزين للأشغال الشاقة، يرشف خوفهم ويأسهم.
يتفاعل عيسى مخلوف مع ما يقترفه تشابك الأزمنة في فكره. المراكب المحمّلة العبيد تنزله إلى واقعه في مقر الأمم المتحدة. ففي ذلك الصباح وكأن شهرزاد تحكي، بدت له نيويورك هادئة، كأنها تعبت من صخبها المتواصل فاستراحت. لا بل كان هو في شوق لإراحة صيفه من عواصف الذكريات.
أمام منحوتة هنري مور المطلّة على جرس السلام بدا له الكون مستكينا. متجذرة في مكانها. هي امرأة تتكئ على منكبيها. تكاوينها تذهب أبعد من ملامح البشر.
الغربة هي للذين لا يعرفون أن الروابط الحميمة قد تولد احيانا بين الجماد والحي. ففي جوار هذه المرأة نمّى هذا المفتون بالجمال علاقة حب معها. يراها في الصباح والمساء، من الخارج والداخل، يواكب استقبالها للفصول، تتعاقب فوق صفحتها فتلفحها الشمس ويهطل عليها المطر والثلج وتبقى غير معنيّة بأحوال الطبيعة، هي المفتونة بنفسها، هو المفتون بها.
لكن هنالك غربة أخرى يكلّمنا عنها عيسى مخلوف، الغربة الأصلية التي يشعر بها المرء داخل محيطه وبلده وأحيانا داخل جسده. ففي لحظة تيه عن منحوتة هنري مور يعود إلى تراجيديا السود، وكيف تغيب عن وجدانه هو المتشرّب من عذابات الانسانية ولاسيما حين يتذكر غربة توني موريسون وبريشتها المبللة بالحبر الأسود قالت: “الأسود حين يواجَه بهذا الكم من الحقد يصبح هو نفسه حاقدا على نفسه ولون يصبح عبئا”.
الكوميديا الإلهية
من نيويورك أخذ إجازة ليتطلّع إلى فلورنسا. النسخة المترجمة إلى الفرنسية حملها معه من باريس. يقلّب الصفحات فيحس بانتقال من الجحيم إلى النعيم. يقول: “بعض الكتب لا نقرأها بل نعترف أمامها، نناديها. تصير كائنا حيا نتواطأ معها.
هكذا في هذا الكتاب ينتقل مخلوف من اللون الأسود إلى “الكوميديا الإلهية” هذه التحفة التي حملها في قلبه وكان يترقب حدوثها، قصة حب غيّرت حياة دانتي وغدت بياتريس الملهمة كل النساء. فجمال المرأة التي رآها هو مسعاه إلى الجمال. في النشيد الثامن والعشرين من “المطهر” قرأ دانتي صمت بياتريس كمن يقرأ أسرار الكون في علامات النجوم. سأل: “عطش هذا الذي يلمع أمامنا أم سراب؟”. وحين تكلّم دانتي عن الموت إنما قصد الموت الذي في القلب. وحين يتمعن به عيسى مخلوف يرى في الموت سريرا آخر للحب.
من الكوميديا الإلهية إلى مرايا الحلم الأميركي. عيسى مخلوف يسير الآن بالقرب من الموقع الذي وقع فيه الانفجار. “غراوند زيرو” نقطة التصادم، الاسم الذي أطلقه الأميركيون على الموقع الذي سقطت فيه القنبلة النووية العام 1945. ذاك المكان، يقول، يرشح بما ترشح به أمكنة الجروح الكبيرة في العالم. من هيروشيما وناغازاكي إلى مطارح الموت الجماعي في كل مكان. “وورلد ترايد سنتر” إسم لضريح كبير ينصهر فيه القتلة والمقتولون معا.