تحولات الريف في قصص هدى بركات تؤرخ لتحولات المجتمع اللبناني

الجسرة الثقافية الالكترونية
زهرة مرعي
«حجر الضحك، سيدي وحبيبي، حارث المياه، زائرات، أهل الهوى» نتاج روائي لهدى بركات استقرّ ذات عشية في لحظات تأمل وبحث أدبي حميم في مكتبة السبيل في بيروت.
المكان يستدفئ الكتب وهي علّة وجوده، وضيوف يستمدون دفئاً عاطفياً إنسانياً وأدبياً أحدهما من الآخر. عندما جلست هدى بركات مع شخصيات رواياتها في المكان المقرر لها وللشاعر عباس بيضون ـ كمدير للحوار ـ لم تشعر بغربة. بعض من رفاق الماضي حضروا. حضور جعل للحظة استشهاد الماضي نبضا، وربما نكهة مرارة مستوطنة من تقهقر قاتل لم يكن بالحسبان، داهم بركات وجيل بكامله. من ذاك الجيل حضر الكاتبان حسن داود وحازم صاغية إلى جانب عباس بيضون طبعاً. انكب بيضون على قصص بركات مستكشفاً من خلالها تحولات الريف اللبناني، الذي فقد براءته وبساطته. وقرأ في بدايات كسوف مجتمع الريف، بدايات اضطراب وتفكك الحياة اللبنانية عامة.
في بعض ما يأتيه الروائي سيرة ذاتية أو نتف منها يبني عليها خيوطا وخطوطا. بركات تعترف باجتهادها الشخصي للابتعاد عن الذاتي ليدخل نصها الأدبي في مسار سبر أغوار التاريخ، بحيث يتسنّى له أن يصبح سيرة وطن. بركات التي أبعدتها حواجز الطوائف وتقاتلهم وكذلك «صراصير بيت صور التي لا تُعد» إلى باريس سنة 1989 تستغرب أن جيلها ما زال غير مصدق كيف «وصلنا إلى هنا، في حين أن أولادنا اختاروا طريقهم ودفشونا من الخلف، ونحن لا نزال نبحث عن السبب الذي آل بنا إلى حالنا هذا».
عندما أعلن عباس بيضون أنه عاين بدقة خريطة بيروت عند قراءته لرواية «حارث المياه»، تثني هدى بركات على استنتاجه بالقول: عرفت بلدي متأخرة ـ هي ابنة بلدة بشرّي في أعالي شمال لبنان ـ كان جدي طاعناً في السن عندما عاين البحر في طرابلس لأول مرّة. «خوت»، اعتبره خطيراً وأقوى منه، وقفل عائداً إلى بشرّي بسرعة. في الستينيات ألححنا على الراهبة كي ننزل إلى وسط البلد لنشارك في تظاهرة. لم تُكذّب خبراً، أتت برجل الدين الماركسي جيروم شاهين ليعلمنا درس الدين المسيحي. ومن ثم صارت هي تشاركنا في تظاهرات وسط البلد. لقد استغربنا كتلميذات كيف كنّا نُعدّ كسيدات مجتمع، وسريعاً نزلت الراهبات إلى المظاهرات الداعية للعدالة الاجتماعية، ومن أجل فلسطين، ونحن معهن؟ في تلك التظاهرات التقيت بمن هم أقوى من الأيديولوجيات التي كانت لها سطوتها في ذاك الزمن. بغرام هذه البيروت وقعت، وبحب هذا البلد الذي كان يتغير فعلا، همتُ. وقعت الحرب، وحلّ الفراغ. بيروت الحالية منقطعة الصلة مع الماضي. إنه الفراغ فما العمل؟
في تلك المكاشفة المباشرة بينها وبين الجمهور وعدد من الأصدقاء القدامى وبـ»حركشة» سائل استعادت علاقتها باللغة العربية، التي اكتشفتها هدى بركات في عمر متقدم. ففي مدارس الراهبات التحدث بالعربية يستتبعه القصاص. بكل بساطة قالت هدى بركات بعد اكتشافها اللغة العربية: من لا يخوض تجارب كتابية بالعربية، هو فقط من ليس لديه مخ. حالياً يبتعدون عن العربية لأنها لغة الإسلام. برأيي من لا يحب اللغة العربية هو من لا يعرفها.
نعم هي اعترافات عميقة، كنت كمن أضاع لغته باحثاً في أمكنة أخرى. الكسول هو من لا يكتب بالعربية. تلقيت إغراءات كتابة بغير العربية، لبيتها مرّة وكانت ببدل مرتفع، وقدمت للمشتري ما يُعجب خاطره.
سلسة هدى بركات في حضورها بين مسائليها ومستمعيها. صحيح لها مطالع روائية تراجيدية، بحسب وصف عباس بيضون، لكنها محببة، بسيطة في كلمتها ولا صلة لها بالفذلكة. وهكذا كانت عندما ساءلها رفيق الجامعة والقلم والأفكار الروائي حسن داوود «كمنفى ماذا أعطتك الهجرة إلى باريس قبل 26 سنة وماذا أخذت منك؟ لم توافق على مصطلح المنفى، «لم ينفني أحد». واعترفت مباشرة: أخذت مني الهجرة التي لم أشعرها يوماً استيطاناً، إحساسي بأن ابنائي يتيهون عن وطنهم. وتالياً حفيدتي لا تعرف اللغة العربية. صلتي المباشرة بأبنائي تدلني على ما خسرته. هم يتعاملون مع بلدهم بحرية وتحرر لم يكن لنا. شخصياً خسرت الأماكن في بيروت. أزورها وأضيع في طرقاتها. أدرب نفسي على شوارعها، وعندما أعود ثانية تكون قد تبدّلت. أصف وجودي في باريس كمن يجلس إلى نافذة منزله الباريسي، لكنه يُطل على لبنان. في دفة الكسب أنني أكتب من باريس عن لبنان براديكالية أكبر. كما أشعر بأني حرّة بالمعنى الاجتماعي. لكنني عندما تركت لبنان شعرت كأن أحدهم «دفشني» للسفر.
تعلن هدى بركات أنها بصدد كتابة رواية تتعثر «لشدة سوداويتها.. عندما ضُرب بلدنا ثمة ما ضُرب في داخلنا». وتتوقف عند الحرب الأهلية لتقول «موضوع يستحق أن نتناوله. أوروبا لا تزال تكتب عن الحرب العالمية الثانية، وثمة روايات فيها جدارة أدبية تستحق القراءة. في لبنان يحق لي أن أفهم كيف تحول جاري المُسالم لقنّاص وقاتل»؟
وهكذا انفك اللقاء مع هدى بركات ولا يزال سؤال الفراغ الذي حلّ بلبنان منذ سنة 1975 يقلقها كما الكثيرين غيرها. لقاء عقد في أول مكتبة عامة لمدينة بيروت، التي تديرها جمعية السبيل منذ 15 سنة أي حين تأسست.
المصدر: القدس العربي