تخليص الثقافة من الاستعمار: مقاربات ما بعد حداثية للمفكر الجزائري مصطفى لشرف

الجسرة الثقافية الالكترونية –
وحيد بن بو عبد عزيز
هل يمكن قراءة أعمال المفكر الجزائري الراحل مصطفى لشرف قراءة ما بعد كولونيالية؟ لو طرح هذا السؤال بطريقة أخرى لكان كالتالي: هل يمكن تطعيم المقولات النقدية في الخطاب التاريخي السوسيولوجي الذي اشتغل عليه لشرف بأبعاد مابعد حداثية؟ لو كان ذلك كذلك ألا يؤثر هذا التقريب المعرفي على ثورية كتاب «الجزائر، الأمة والمجتمع» مادام الخطاب مابعد الحداثي يتخذ في كثير من الأحيان طابعا زئبقيا ينفي ما اصطلح عليه بالمقولات الكلية في الفكر الحداثي ويشجع على نسف السرد.
لو حاول أي مشتغل في حقل النقد الثقافي أن يصنع نوعا من الأليغوريا المعرفية التي تحيل على فكر مصطفى لشرف للاحظ بأن فرانز فانون أقرب مفكر إلى هذا المجاز الفكري. لقد عاش الرجلان الفترة الزمنية نفسها، كما عاشا الشرط الكولونيالي بالطريقة نفسها.
كي نفهم جوهر الإشكالية المطروحة في هذه المقاربة، كان لا بد من العودة إلى النقاش الذي ساد حقل الدراسات الثقافية والكولونيالية حول الفانونية. لأن انفتاح فكر مصطفى لشرف على الدراسات الثقافية ليس بالأمر الهين، قد يصل الأمر إلى قراءة هذا المشروع وفق آلية إسقاطية تروم إيصال مقاصد الخطاب إلى منتهى الذروة، فتقع في مشكلة فائض التأويل التي تحرف الموضوع أكثر مما تطوره وتفرغه من محتواه الأكسيولوجي أكثر مما تخدمه.
لم يأت هذا الحكم اعتباطيا، فما وقع لفانون يبين خطورة الوضع، لقد انقسم المختصون في صاحب كتاب «معذبو الأرض» إلى قسمين؛ قسم يدعي أن مقولات فانون حول تبدد الشخصية والاستلاب الكولونيالي تفضي لا محالة إلى براديغم الهجنة ولعبة الدوال، وكمثال على ذلك القراءة الدريدوية (نسبة إلى الفيلسوف جاك ديريدا) التي قام بها المفكر هومي بابا، مستعينا في ذلك بنفسانية لاكان ودولوز، وكمثال ثان نجد القراءة الغرامشية والفوكوية التي قام بها إدوارد سعيد للحفاظ على طابع الصراع والجدل.
قسم آخر يبين أن خطاب فرانز فانون لا يقبل الانفتاح على مقولات ما بعد الحداثة التي تتسم بالسيولة والعدمية والتأجيل والإرجاء. من بين هؤلاء نجد أليس شرقي وديفيد ماصي اللذين يعدان من أبرز المختصين في فكر فانون وسيرته الذاتية والفكرية.
لو نقوم بإطلالة على أهم كتب مصطفى لشرف سنلاحظ الأمر نفسه، فكتاب «الجزائر الأمة والمجتمع» مفعم بالتاريخية والإيديولوجيا التي تتعكز على فكرة مفادها أن أشكال المقاومة في السياق الكولونيالي تراجعت كثيرا في المناطق الحضرية، في حين بقيت تضج بالإرادة وبنوع من الوعي الغريزي في المناطق الريفية.
أما كتاب المرحوم لشرف الثاني «أعلام ومعالم» فاتسم بنوع من الكتابة البرقية الأقرب إلى ما يطلق عليه المفكر الأمريكي من أصول فلسطينية إدوارد سعيد بالأسلوب المتأخر Le style tardif، في دراسة طالت أعمال الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو في كتابه «أخلاق دنيا» وبعض الدراسات الموسيقية. المقصود بالأسلوب المتأخر حالة تنتاب المفكرين الكبار في آخر حياتهم فتنطلي على كتاباتهم أساليب تتسم بالدائرية واللانسجام والتبعثر، يكون أقرب إلى التخريف ولكن في الحقيقة يعكس نوعا من التطور المرحلي الضروري في حياة الكتاب والمؤلفين الكبار. إن الوصول إلى حالة من الكتابة الشذرية والخواطرية في مرحلة متطورة من العمر يبين بأن إرادة الانسجام التي عايشت الكاتب في بداية مشروعه تعد نوعا من التواضعية مع الجماعة، في حين يعكس الأسلوب المتأخر حالة من التفرد الأنطولوجي، بل يجسد هذا النوع من الكتابة تماهيا مع البنية العميقة للحداثة في سيرورتها وتصيُّرها.
انطلاقا من هذا الوضع يمكننا التكهن بأن قراءة لشرف قراءة مابعد الكولونيالية قد تخلق اختلافا في مقاربة أعمال الرجل، لأن التركيز على كتاب واحد قد يؤدي إلى قراءات مبتسرة كالتي حصلت مع فانون والتي حصلت مع ماركس. فماركس الشاب الذي مازال تحت نير الهيغيلية ولد تيارات ماركسية امتازت باليوتوبيا وامتلأت بالإيديولوجيا، في حين ماركس الشيخ ولد قراءات في كنف الماركسية أقرب إلى العلمية باعتمادها على الاقتصاد السياسي.
يتجلى التكهن الثاني، والمقصود من التكهن هنا التعرف على حدود وممكنات الظاهرة الشرفية وفق مفهوم النقد الكانطي، في أن هذا المفكر الجزائري كائن مخضرم، عاش مرحلة الاستعمار بوعي وما بعدها بوعي أحدّ، لهذا فهو مقسم بين الفيلسوف التاريخي الذي يقوم بعمل النقد والتنوير وفك الحجب عن الإيديولوجيا الكولونيالية من جهة، كما يقوم مرات بعمل المثقف العضوي والبيروقراطي للنهوض بالجزائر ما بعد الاستعمار.
إن المثقف الذي عاش المرحلتين يعرف لا محالة أن النضال الثقافي لا يتوقف عند زمن الاستقلال التاريخي (1962) بل يكون في أوج اشتغاله بعيد الاستقلال لأن ترصدات الأمبريالية ستتطور في ميكانيزماتها الجديدة (الاستعمار الجديد) ولأن الدولة المستقلة حديثا ستواجه تحديات معقدة وعظيمة تقتضي استراتيجيات محسومة بدقة واستشراف سيناريوهات غنية لكي يتم تجنب خيبة الاستقلال. إن الاستقلال الحقيقي في هذا الحال تكون العبرة فيه بالحفاظ عليه أكثر من الظفر به.
على الرغم من الاختلاف الكبير والجوهري مرات الذي شمل تعريف الدراسات الكولونيالية ومابعد الكولونيالية، فإن الكلي والشامل في المسألة أن الثقافي المشروط بالتاريخي والاقتصادي يتصدر الكثير من التحديدات، لهذا سأختار هذه التعريفات محاولا مقاربتها بما كتبه مصطفى لشرف.
يعرف جورج بالاندييه، أحد المختصين، الدراسات مابعد الكولونيالية كالتالي: «تعين الدراسات مابعد الكولونيالية زمرة من التعاليم والبحوث والمجلات التي تدور حول الحدث الكولونيالي وإرثه، والتي تم تكوينها في ميادين مختصة بجامعات انغلوفونية منذ الثمانينات. بعدما انطلقت مباشرة في معاهد الدراسات الانكليزية راحت تقتحم الاختصاصات المتباينة مستنطقة كل العلوم الإنسانية التي تعالج من بعيد أو من قريب ظواهر الهيمنة الثقافية: مثل الأنثروبولوجيا واللسانيات وعلم النفس والتاريخ والعلوم السياسية، إلخ».
يغلب على هذا التعريف الطابع الصحافي والتقريري، كما نلاحظ فيه تناسيا مهما للدراسات الأدبية التي يعد نقادها، مثل إدوارد سعيد وهومي بابا وبييل أشكروفت من النافذين والمؤسسين الحقيقيين لهذا الحقل الدراسي المهم بانطلاقاته النصوصية الأدبية وانفتاحه وتفرعه على اختصاصات أخرى في ميادين شتى. لعل أحسن مثال يدلل على نقدنا هذا هو كتاب «الاستشراق» الذي كتبه إدوارد سعيد والذي يعد فعلا انجيل الدراسات مابعد الكولونيالية. فانطلاقا من نصوص دي نرفال وفلوبير وكيبلينغ وأوستن الأدبية، استطاع صاحب الكتاب تحديد بنية الخطاب الاستشراقي الذي تماهى مع الخطاب الإمبريالي عند اللورد بلفور وغيره. إذن تعد كل محاولة لتغييب المجال الأدبي في تعريف الدراسات ما بعد الكولونيالية ضربا من الوهم والخطأ الفظيع.
حاولت الدراسات مابعد الكولونيالية خلخلة المركزية الغربية في كل أبعادها، متخذة مرات شكلا من أشكال نقد الهيمنة والفوقية التي يعاني منها العقل الغربي الملوث بالأداتية والاستعمار، نجد هذا الطرح واضحا في أفكار إدوارد سعيد، كما اتخذت مرات شكل نقد ذاتي اندرج تحت ما يسمى بدراسات التابع Les études subalternes كما هو الحال عند غياتري سبيفاك، وراحت مرات أخرى تحاول تأزيم الخطاب الكولونيالي، بكشف النقاب عن تناقضاته وادعاءاته الميتافيزيقية للحقيقة؛ مثل هذا التيار بقوة هومي بابا وجوديث بوتلر.
بعدما كتب سلمان رشدي مقالا مهما في سنة 1980 وردت عبارة «الكتابة ضد الإمبراطورية» التي ستفتح تيارا في أستراليا يقوده كل من بيل أشكروفت وغاريث غريفيث وهيلين تيفين، فابتداء من سنة 1989 أصبح هم الدراسات مابعد الكولونيالية لا يكتفي بنقد وتفكيك الخطابات الكولونيالية بقدر ما يقوم بكتابة مضادة على هذه الخطابات. إن التعريف الجديد الذي أولته هذه الجماعة للدراسات مابعد الكولونيالية أثر في كتابات الجيل الأول، لهذا تغيرت تقنية إدوارد سعيد مثلا حينما كتب كتابه المهم الثاني «الثقافة والإمبريالية» (1993) من فضح لتشكلات الخطاب الاستشراقي إلى البحث في أساسيات المقاومة الثقافية والكتابة المضادة أو ما يطلق عليه البعض السرديات المعكوسة.
عرفت جماعة أشكروفت الدراسات ما بعد الكولونيالية كالتالي: «إننا نستخدم مصطلح مابعد الكولونيالية ليشمل كل ثقافة تأثرت بالعملية الإمبريالية منذ اللحظة الكولونيالية حتى يومنا الحالي. ويرجع هذا الاستخدام إلى استمرار هذا الانشغال طوال العملية التاريخية التي بدأت بالعدوان الإمبريالي الأوروبي. كما اننا نطرح أيضا هذا المصطلح لأنه الأكثر ملاءمة، بوصفه مصطلحا للنقد عبر الثقافي الجديد الذي ظهر في السنوات الأخيرة، وللخطاب الذي يتأسس من خلاله ذلك النقد. يمكن القول إن هذا الكتاب معني بالعالم كما كان موجودا أثناء فترة الهيمنة الإمبراطورية الأوروبية وبعدها، وبتأثيرات تلك الفترة في الآداب المعاصرة»
يبين هذا التعريف بأن الدراسات ما بعد الكولونيالية لا تكتفي بمعالجة ورفع الحجب عن فترة ما بعد الاستعمار، بل هي تطول المرحلتين معا، المرحلة الكولونيالية وما بعدها، لهذا يقتضي التعريف التفريق بين الاستعمار Colonialisme باعتباره مرحلة تاريخية محددة بزمن معين، وكولونيالية Colonialité كحالة ثقافية تشمل القبل والحين والبعد الاستعماري.
على الرغم من أهمية كتابات مصطفى لشرف إلا أننا نلاحظ أن رواد النقد الثقافي لم يعودوا إلى كتاباته، والعجب سنكتشف كذلك بأن المفكر الجزائري لشرف لم يستعمل في حدود علمنا نصا أو مقطعا استمده من كتابات الدراسات مابعد الكولونيالية.
يشكل النقد الماركسي للاستعمار الخلفية المعرفية التي يتقاطع فيها صاحب كتاب «الجزائر الأمة والمجتمع» مع النقد عبر الثقافي. لقد عرف العالم الحديث ظاهرة تعميم مرض البرجوازية على الجزء الضعيف الجنوبي من الكرة الأرضية، هذا المرض الذي كانت نتائجه الاستعمار، على الرغم من كونه ظاهرة اقتصادية، عكست تأزم الرأسمالية بانغلاق الأسواق إلا أنه يبين كذلك تراكم حالة ثقافية شيّأت العالم وضاعفت من استراتيجيات الهيمنة والاستغلال.
لا ننكر بأن إدوارد سعيد استعان بمصطفى لشرف في كتابه «الثقافة والإمبريالية»، حينما عاد إلى مقاله المبثوث في كتابه «الجزائر الأمة والمجتمع» (بسيكولوجيا غزو). لقد كانت هذه الاستعانة أقرب إلى توظيف المعلومة من الاهتمام بقيمة المقال من الناحية التاريخية. لم يتفطن ربما المفكر الكبير إدوارد سعيد بأن سنة كتابة المقال كانت في 1956، وهي سنة دالة لأنها تعد السنة الثانية بعد اندلاع الثورة الجزائرية. كما أننا لو عدنا، زيادة على ذلك، إلى محتوى المقال فإننا سنعد زمن كتابته في هذه السنة نوعا من الدراسات الكولونيالية السباقة إلى تحديد الاستراتيجيات التي كان يتخذها المستشرقون والرحالة والجنرالات مطية في جعل الجزائر موضوعا للدراسة أي موضوعا للهيمنة.
لم يكتف مصطفى لشرف في كتابه الأول بتأرخة زمن الاستعمار في الجزائر، بل حاول فهم هذه الظاهرة بالتكريس والاستعانة بعدة أدوات معرفية من نقد سوسيولوجي ماركسي إلى علم النفس إلى الأنثروبولوجيا.
إن أهم المصادر التي حاول عن طريقها فهم ظاهرة الاستعمار بصفة عامة والاحتلال الفرنسي للجزائر بصفة خاصة تجعلنا نرفع من قيمة هذا الرجل لأنها مصادر كان معظمها عبارة عن مخطوطات في جامعات فرنسية أو كتب لم يُتفطن لها في قراءة الآخر الجزائري قراءة صوراتية.
حينما نرسم اللوحة الكاملة لفكر لشرف يمسنا اعتقاد جازم بأن فتح فكره على الدراسات ما بعد الكولونيالية لا يمكن أن يتجسد من دون تحريف وتشويه لجوهر كتاب «الجزائر الأمة والمجتمع» ويعود ذلك في اعتقادي إلى فكرة الأمة- الوطن التي ينطلق منها دائما لشرف في كتاباته: «الجزائر الأمة والمجتمع» و»أعلام ومعالم» و»القطائع والنسيان» و»التاريخ، الثقافة والمجتمع» فهو وطن مغلق نتاج فكر أنواري يعقوبي يحتوي على روح ويتحدد انطلاقا من أساطير مؤسسة. انه وطن بالمفهوم الكلاسيكي تولد مع ظهور ما يسمى بالدولة الأمة.
لا يمكن البتة لهذا المفهوم أن ينسجم مع مقولات النقد ما بعد الكولونيالي، لأن مفهوم الوطن عند هؤلاء نوستالجيا مرجأة إلى زمن لا يأتي، لهذا يصبح مفهوم الدياسبورا المعتمد على الترحال والمنافي بمثابة براديغم بديل لبراديغم الوطن الصافي.
لقد احتفى إدوارد سعيد كثيرا بمقولات الفيلسوف تيودور أدورنو عن الوطن القائم على التحديدات الإنسانية وليس على التحديدات الجغرافية والتاريخية. كما احتفى هومي بابا كثيرا بالمفاهيم التي أرساها الفيلسوف الالماني والتر بنيامين عن الوطن، وطن المقموعين الذي يقوم دائما على «الحالات الاستعجالية»، ولأن معظم النقاد ما بعد الكولونياليين من دول العالم الثالث ويعيشون في الغرب فإن مفهوما للوطن يقوم على البعد الإنساني والتحديدات النوستالجية لا يعد من قبيل المصادفة أو لا يحث على التعجب، لهذا اعتقد أن ربط فكر لشرف القائم على براديغم وطن صاف مع فكر يقوم على براديغم الهجنة نوع من الربط القسري والإسقاط المجحف في كلا الحقلين.
ولكن!
على الرغم من أن فكر مصطفى لشرف لا يمكن فتحه على مقولات النقد ما بعد الكولونيالي للاختلاف الجوهري في بعض المقولات الأساسية، فإننا لا نجزم بوجود تيار ما بعد كولونيالي واحد يكتسح الساحة، فهنالك تيارات لا تعتمد أساسيات ما بعد الحداثة في انطلاقاتها النقدية لمقولات الاستعمار وهي اقرب إلى فكر مصطفى لشرف لأنها ما زالت تؤمن بفكرة بناء الوطن قبل النزوع إلى محوه باسم العالمية والإنسانية. بكلمة واحدة وبكل وضوح لا يمكن أن نعمم مقولات المنافي على المستعمرات القديمة لأن تجربة المنافي فعلا تجربة ما بعد كولونيالية وتجربة بناء الدولة كذلك تعد تجربة ما بعد كولونيالية.
إن ما يميز فكر لشرف نزوع نحو تصفية الاستعمار في التاريخ والثقافة والفكر وعلم الاجتماع، لهذا فهو يكمل مشروعا ابتدأه محمد الشريف ساحلي في كتاب «تصفية الاستعمار في التاريخ» ويشتغل عليه الآن الكثير من المفكرين الأفارقة منهم أخيل مامبي والمفكرة ذات الأصول الهندية آنيا لومبا.
القدس العربي