«تذكار الجنرال مود» لضياء جبيلي: سفينة الواقع وشراع الخيال

الجسرة الثقافية الالكترونية
*احمد ابراهيم سعد
المصدر / القدس العربي
من الإبداع في رواية أن يكون عنوانها هو قلبها النابض.. إنها رواية «تذكار الجنرال مود» الصادرة عن دار وراقون للطباعة والنشر بيروت 2014. وهي الرواية الطويلة الرابعة بعد روايات قصيرة أصدرها الروائي ضياء جبيلي.
إن تذكار الجنرال مود هو كرسي عمد الأمير زلكا أبن الحكيم زيوسيدرا إلى ركله فتسبب بسقوط الجنرال على الأرض أمام حشد غفير من سكان «قلعة عين الذهب» الافتراضية في الرواية، التي سأتطرق إليها في السطور التالية.. «غادر الجنرال مود قلعتنا، وقد أخذ معه تذكارا من قلعتنا، وهو الكرسي نفسه الذي جلس عليه أثناء توقيع الاتفاقية» ص152. بهذا المشهد الدرامي المتخيل، والنابض بعبرة تلخص طريقة التفكير بين «حاكم عاقل وحكيم..
وحاكم محكوم بجهله»، من هنا يتكون التضاد الفعلي داخل الرواية بعد نبضات من الوظائف السردية تتضافر لبناء زمنين سرديين، زمن الروي بخاصية «العتاب» والمعنون بفصول متكررة داخل الرواية بـ»يا سيد قرش» وهو زمن سردي يميط النقاب عن وجه الدولة في زمن الحرب العراقية الإيرانية وفترة التسعينات وملابسات الشخصيات داخل هذا الواقع.
وهناك زمن سردي افتراضي تتغير عناوينه على نحو «أروي لأسليكم موليسيه- أروي لأخيفكم أنا أورماخ أروي لأغريكم أنا دماكينا أروي لأفضح دامكينا- أروي لأغريكم أنا شاعر وأدعى أورنينا أروي لأمتعكم أنا أدابا، راعي البقر أروي لأنهي الحكاية كبي كبي !»، بهذين الزمنين السرديين يتحقق عنصر التشابه من خلال الخراب الذي يخلفه الحاكم الواقعي، والحاكم الافتراضي المحكومين بجهلهما داخل مكان يعكس وجه التشابه في واقع الزمنين من خلال بؤرة التسمية «عين الذهب» وهي استعارة لعبارة «النفط الأسود» الذي كان ومازال سبباً بحزن وخراب المكانين والزمانين.
هذه الرواية بتقديري تعكس ولا تقلد، لكنها تُخضع بشكل اضطراري صورة الواقع العراقي داخل منظومة اجتماعية معقدة من التأريخ غير التاريخي، عندما يكون الأول أكثر صدقاً في الذاكرة المعاشة.. والاقتصاد غير الاقتصادي حين يعيش الإنسان مع ذهب داخل غرفة من الطين.. والوجود غير الوجودي وقت يؤثر الإنسان الأحلام بديلاً عن الحياة.. فيما يكون الموت حالة غياب يجب تبريرها ثقافياً، ولصقها بقاتل مجهول، حتى إن كان قرشاً.
إن تمثيل الروائي للقرش كمروي له مرتبط بميثولوجيا قديمة تعايش معها سكان وادي الرافدين، وهو ما كانوا يسمونه بـ»موت الكوسج»، فعند اكتمال القمر من كل شهر تجلس الأمهات اللواتي فقدن أبناءهن بسبب القرش على ضفاف الأنهر، وهن يحملن عجينة سويت على شكل وجه آدمي، ويضعن داخله ما يحبه الأبناء المفقودون من طعام. يرمينه في النهر ثم يقمن بمعاتبة القرش.
إن غياب الأبناء والأزواج المفاجئ من قبل السلطات الحاكمة القمعية، ثم قتلهم ورمي جثثهم في الأنهر أو البحار أوجد المتهم البريء وهو القرش. القرش الذي أسست جريمته الحكايات المروية كتراث من الفلكلور الحكائي الموروث ليصبح البديل المنطقي عن يد السلطة القاتلة، وهذا الفعل التبريري عبدّ للرواية منظورا شكليا لبنائها وفق نظام السرد المتناوب بفصول تتجاور باختلافها الزمني، لكنها تتوحد مع قاتل واحد وهو القرش.
تبدأ الرواية على لسان راو مشارك بثلاثة عشر سطراً أجتز منه الآتي: «توفي سيد انقلاب جد كريم عبد الواحد عن عمر يناهز الثانية والتسعين مع حلول عام 1986. كان حكاء ماهراً، ينسج أجمل الحكايات وأغربها. ومنها حكاية امرأة تسكن في إحدى القلاع النائية، افترس الكوسج أولادها الستة» ص7.
يمد الكاتب من عمر شخصية الجد انقلاب ليتمكن من خلق مساحة زمنية من شأنها استيعاب الحوادث المعاشة تاريخياً، وربطها المقنع بين المروي نقلاً، والمروي متخيلاً عن القلعة وعن الكوسج الذي أكل ستة أبناء. وبمحاولة لتأثيث بنية تلق مقنعة يختار الكاتب فصل الروي الأول مع السيد قرش، بنبرة تصالح معنونة بـ»عزيزي السيد قرش.. أهديك تحياتي.. أو تحية طيبة» يبدأها بـ»أكتب لك بمنأى عن أعين الناس من أهلي ورفقتي. فلو حصل واطلع أحدهم على ما أقوم به الآن، فلا بدّ في أقل التقديرات سيأخذ الأمر على محمل الهزل، أو النكتة التي دائماً ما كنت أميل إلى تأليفها، والتفكه بها قبل أن تفعل فعلتك وتفتك بأعزّ أصدقائي هذا إن لم يظنّ أحدهم أنني صرت في عداد المجانين» ص8.
هذا التلميح المعلن بالجنون هو مبرر قصدي لممارسة كتابة ما يشبه الرسائل إلى قرش فتك بصديقه كريم عبد الواحد، وهو الشخصية الإشكالية الممتدة من جده انقلاب، الذي يعتبر الذاكرة التمثيلية للبناء التخيلي لقلعة عين الذهب في الرواية، وكذلك الأبناء الستة الذين أكلهم القرش مجازاً.
يستمر الفتك المجازي داخل الرواية من قبل القرش، وهو يستعرض حقيقة القتل من خلال مرسلات الروي السردي مع «يا سيد قرش» أو مع أبناء الأم بسيما الذين يسردون وقائع حياتهم وموتهم، ويرسمون معها شخصياتهم كيف يحلو لهم، بضمير الـ»أنا» إلى القارئ الذي يقع عليه فك رموز الحقيقة، وتحليل الشفرات النصية، وجمعها كأدلة شفاهية تغيب حقيقة القتل عن الأم الثكلى بسيما، التي لا تحيد عن فكرة القرش المتهم، فيما يظهر في متوالية روي الراوي المشارك، وهو يكتب رسائله للقرش بغية بناء عالم من الذكريات يتحرك فيها كشاهد على الشخصية الغريبة لصديقه غامق السمرة، كريم عبد الواحد، وقدراته الفذة والغريبة في قفز الأنهر الصغيرة، والتنطيط مثل قرد أو حبس الأنفاس داخل الماء لأكثر من 40 دقيقة، وأكل نشارة الخشب والبلاستك.
إن إلحاق تلك الخصال الغريبة بشخصية البطل كريم لم تؤسس لبنية كارزما بطل يتحرك وفق هذا المعطى المغاير للمألوف داخل النسيج التكويني للرواية، وهذا ما فرضته تقنية الرواية على المؤلف، حسب تصوري، لتجعل من كريم عبد الواحد شخصية منسجمة مع سلوك ناشز وآخر عقلاني، يتشابه فيها مع شخصية الابن «رقو» مربي الصراصير والحشرات في زمن قلعة عين الذهب، فالأول بعد أن قرأ كتاب كافكا «المسخ» راح يتصور أنه يستيقظ ويجد نفسه مثل غريغوري بطل الرواية وقد مسخ صرصاراً، فيما الثاني في الزمن المتخيل يربي الصراصر، وما يجمعهما أيضاً سمرة الوجه والعشق الضائع لفتاة متنمرة وخائنة.
ويستمر إظهار حالة التشابه بين شخصيات الزمنين «المروي مشاهدة، والمروي متخيلاً».
الأم الثكلى بسيما في زمن قلعة عين الذهب هي انعكاس لنجمية أم كريم عبد الواحد في زمن عيون النفط الأسود، والرئيس صدام حسين انعكاس للأمير زلكا الذي ركل الكرسي ليسقط الجنرال وجعله أضحوكة، والحكيم زيدوسيدار هو السلطة الدينية المستضعفة، والجنرال مود هو شخصية امتدادية للقوى الأمبريالية اليوم، فيما يبقى القرش المجاز التعريفي والخفي للقاتل الواحد سالب الأبناء والأزواج، فيما يكون «مير سلوم أفندي» حبل الوصل بين زمن القلعة المتخيلة وزمن الجنرال مود، وهو زمن ثالث اقتصر دوره ليكون مفصلا في سياق الزمنين الثابتين في بنية الخطاب والمتن، وهو الزمن غير المعنون في الرواية، لكنه شاخص بزمكانه الهرموني بوصفة ذاكرة تاريخية ثقافية تستدعي وجودها البنائي داخل ملحمة حربية استنزافيه، يبدأ عمرها من غير التاريخي «الأسطورة» ثم بواقع التأريخ الحديث ولا ينتهي بواقع الحاضر المشابه لواقع الأسطورة.
ويبدو أن الاسم غير العربي «مير سلوم أفندي» يمثل انعكاسا تمثيليا للدولة العثمانية أو الإيرانية، حيث وجدت هذه الشخصية لتكون خارج السياق العسكراتي، وداخل المنظومة البراغماتية النفعية التي يتجدد وجودها بعنوان حاضر في ملفات الذاكرة العراقية «النفط مقابل الغذاء»، أو سياسة الكيل بمكيالين، وهذا ما أرادت الرواية إثباته كواقع قائم ومستمر في تأريخ الأزمنة العراقية، التي تم تنصيصها داخل رواية «تذكار الجنرال مود» التي استثمرت الخيال كمرآة تعكس الحقيقة، وهذه الرواية تذكرني بمقولة جون هولبرن: «تجد الحقيقة كلها في مخيلة الإنسان دون غيرها وجوداً مؤثراً لا ينكر. إن المخيلة لا الاختراع هي السيد الأعلى للفن بصفته حياة».
وبمناورة سردية ذكية يضعنا الروائي المبدع ضياء جبيلي، إزاء انعكاس بين شخصية كلكامش وشخصية الجنرال مود، عندما يمر من زمن السرد المفصلي إلى زمن قلعة عين الذهب لعقد اتفاقية سلام، تنتهي بسقوطه على الأرض بمقلب تنكيلي، وأخذ الكرسي كتذكار تعلم منه الكثير، فيما بقي الفاعل يكرر نفسه عبر كل الأزمنة التي يسقط فيها من كرسيه، وهذا انعكاس ضمني لمتوالية السلطة في بلد النفط الأسود التي أظهر وجودها الواقعي القبيح في رسائل الراوي للقرش وهو يسرد عن أماكن واقعية في مدينة البصرة، بوصفها الدالة غير الرمزية لعين الذهب.
عاش ناسها هموم الحروب والحصار، والتهجير والموت الحيواني، لذلك استخدم المؤلف كلمة «نفق فلان» الخاصة بالحيوان بدلا من «مات» دلالة على موت الإنسان الحيواني.
ومن المضامين السردية التي يكتبها الراوي المشارك إلى السيد قرش ثمة مشهد سينمائي بعين كريم الطفل وهو يشاهد مع أمه التي اصطحبته عائدة من السوق، وهو مشهد يلخص الكثير من الوقائع غير اللغوية «مرق الاثنان من أمام صورة للرئيس وضعت مؤخراً عند رأس الجسر في منطقة الخندق، ويظهر فيها مرتدياً بدلة زيتونية وخوذة مشبكة ومطينة كنوع من الغش والاختباء وحيل المعارك الحربية، تظلل عينيه نظارة شمسية، وثمة قاذفة طراز آ ر- بي جي سفن تستريح على كتفه، وقد وجه صاروخها نحو السواتر الإيرانية.
في الجانب الآخر ثمة صورة كبيرة للخميني في أحد شوارع قم أو طهران، يرتدي ثياباً كاكية، لكنه يحمل بدلا من القذيفة بندقية يوجه فوهتها بين أجمات القصب نحو الضفة العراقية» ص45.
كان من الممكن للروائي ضياء جبيلي أن يبدأ روايته بهذا المشهد التأسيسي، وتستمر الرواية داخل زمن يمكن التلاعب بمستوياته المكانية سردياً، لكن هاجس الكاتب الإبداعية دفعت به إلى لملمة شتات الواقع المعاش عبر سرد متفاوت المستويات، ولغة جاذبة ووسطية، وتقنية مقنعة اشتغلت على التجريب داخل النظام لتكون بمنأى عن العبث.
وقبل أن تكتمل البنية الخطابية للنص الكلي يكون القارئ أمام فصل معنون بـ»أروي لأنهي الحكاية» إنه الغراب «كبي كبي» الذي تتوهم الأم بسيما أنه طائر «الشقراق» المقدس في الأسطورة الملحمية، والذي يحصل عليه الفتى رقو بعد أصابته بإطلاق ناري، وهذه الإشارات المتداخلة بين السلاح الحديث والمستخدم في أسطورة القلعة المتخيلة، هي تمرير سردي مبرر يذوب الخيوط الزمنية ويجعلها متحدة مفاهيميا.
يروي الغراب لنا نهاية الحكاية في ما يخص الزمن المتخيل عن قصته مع «رقو» الفتى الذي هام بجنونه بعد أن عرف بأن الرسائل الغرامية التي كان يكتبها لها كانت تغير صيغتها من المؤنث إلى المذكر، وترسلها إلى أحد الجنود الشقر، وهو نوع آخر من الخيانة والخراب الداخلي لمجموعة قيم منهارة بين عالم الزمنين السرديين في الرواية.
إن استخدام الروائي للغراب هو واقعة نصية تكاملية لمعطيات المتخيل في الجانب الأسطوري من الرواية، وحضور دلالي للجانب الواقعي منها.
ففي رسالة «الحيوان والإنسان» لإخوان الصفا جاء فيها «وأما الغراب الكاهن، المنبئ، فهو ذلك الشخص اللابس السواد، المتوقي، الحذر، المذكر بالأسحار، الطوّاف في الديار، المتتبع للآثار، الشديد الطيران، الكثير الأسفار، الذاهب في الأقطار، المخبر بالكائنات، المحذر.. وهو القائل في نعيقه وإنذاره: أين المفر والخلاص..؟».
يقول الغراب بعد عودته إلى قلعة عين الذهب: «أما الذي حدث في قلعة عين الذهب فكان مهولاً، وهو ما سأرويه على شاكلة أولئك الرواة، الذين بلغوا حدا أدركوا معه أن من الملائم جدا وضع نهايات مناسبة لحكاياتهم وهو ما سأفعله» ص207.
يتحدث الغراب عن عودة الجنرال مود ومعه التذكار «الكرسي» وبصحبة جيش جرار للقضاء على حكم الأمير زلكا.
يخبرنا الغراب الكوني عن الصورة الاستعارية التي تعكس التشابه الختامي بين عالمين الأول متخيل والآخر واقعي غير مكتوب، لكنه شاخص في مدونة الذاكرة العراقية، حيث يكون فيها الجنرال مود الاسم التأريخي المتحقق بحضوره المجازي في زمن الحاضر العراقي.
في هذه الرواية المثيرة لجدل النقد حسب تصوري تبدأ مع العالم الخارجي، وتنتهي في الرواية التي ميزت نفسها مضمونيا عن روايات ما بعد التغيير في محاولة إبداعية من الروائي ضياء جبيلي. لكنها تتشابه مع غيرها من روايات ما بعد التغيير في رمزية استعراض تراجيديا الواقع، وانطولوجيا الموت، بطريقة الفنتازيا، أو الأسطورة، أو الخرافة، وهذا ما فعلته الكتابة الإبداعية في زمن الدكتاتورية والرقابة الثقافية لكن بدرجات متفاوتة، يكون فيها الفضح الواقعي سردياً، أقل بكثير من الفضح الذي لا يريد اليوم ربما أن يستنسخ الواقع النصي فوتوغرافياً فآثر إبداعياً الدخول في عالم التمثيل الرمزي وأقنعته التي تكشف أكثر مما تخفي، وتضرب الأمثال لتكون أكثر قوة من الوصايا.