تراثنا الفلسفيّ العربيّ القديم كان حوارًا وترجمةً

الجسرة الثقافية الالكترونية
*جهاد فاضل
المصدر: الراية
“امتداح اللافلسفة” كتاب صدر حديثًا في الدار البيضاء بالمغرب للمفكر المغربيّ الكبير عبدالسلام بنعبد العالي أستاذ الفلسفة في جامعة مُحمد الخامس. وهو يحتوي على مُلاحظات كثيرة حول الثقافة المُعاصرة سواء عندنا أو في الغرب، ذات طابع فلسفيّ مُخالف لعنوان الكتاب. وتنتمي هذه المُلاحظات إلى فكر حديث ينظر في الظواهر والأشياء محاولاً تفسيرها أو تعليلها. وهو فكر كثيرًا ما نفتقده في المشرق العربيّ ولا نعثر عليه في عواصمنا أو في جامعاتنا وأوساط المُثقّفين إلا في النادر. وعلى الرغم من أن صفحات “امتداح اللافلسفة” لا تتجاوز الثمانين صفحة، إلا أنها تؤلف بالنسبة للقارئ رحلة مُفيدة في عالم مُفكر وأكاديميّ مُنفتح على الثقافة الأجنبيّة وبخاصة الفرنسيّة منها، حيث تتردّد أسماء ومقولات لعلماء وأدباء ومُفكرين أجانب، منهم رولان بارت وكلود ليفي شتراوس وهايدغر وحنّة أردت ونيتشه وسواهم، كما تتردّد أسماء مغربيّة بارزة، منها عبدالله العروي وعبدالفتاح كيليطو.
ينقل عن عبدالله العروي قوله في كتابه الأخير: “إن ما يجعل السياسة بئيسة عندنا هو بالضبط شموليتها، أيّ أن المغاربة لم يستطيعوا بعد أن يفصلوا السياسة عن المجالات الأخرى: فهم يسيّسون الرياضة، ويسيّسون الفنّ ويسيّسون العلم ويسيّسون الفلسفة. “نسيّس كل شيء فنفرغ السياسة من محتواها ونجرّها إلى الحضيض”. ويرى الباحث المغربيّ أنه لا يمكن لأحد إلا أن يوافق العروي رأيه هذا، خصوصًا إذا أخذنا بالاعتبار الثمن الباهظ الذي أدّيناه وما زلنا نؤديه في عالمنا العربيّ من جراء تسييس كل شيء. كما يرى أن علينا أن نميّز بين السياسة والسياسيّ على اعتبار أن السياسيّ هو مُستوى من مُستويات كلّ تشكيلة اجتماعيّة، وهو قوام التاريخ والفكر، كلّ ما يُعمل وما يُقال: إنه البعد الأساسيّ للواقع.
أما السياسة فهي المُستوى الذي يتحوّل فيه السياسيّ إلى حنكة ومهارة، ويتحوّل فيه النقد إلى ترديد للشعارات، وروح المُبادرة إلى امتثال لأوامر، ومُحاولة تغيير الواقع إلى “أخذ الواقع بعين الاعتبار”.
ويردّ العروي مرّة أخرى في كتاب عبدالسلام بنعبد العالي متحدثًا هذه المرّة عن النتائج السلبيّة للحداثة، إذ أشار إلى أنّ الأدب الأوروبيّ الحديث كلّه من سرفانتس إلى ديكنز إلى دستويفسكي يمكن أن يعتبر وثيقة إنسانيّة مسجّلة ضدّ النتائج السلبيّة للحداثة. والأدب الأوروبيّ الحديث هو في العمق وثيقة شجب لعمليّة التحديث.
ولا شك أنّ موقف العروي من النتائج السلبيّة للحداثة جدير بالاعتبار. ذلك أنّ الأدب الذي ترعرع في حضن الحداثة، وواكب التحديث شجب للعمليّة ذاتها. هذا “العقوق”، هذا التنكّر ربما لا يخصّ الإبداع الأدبيّ وحده، بل يطال ميدان الأفكار. ولعلّه هو ما يجعلنا نجد أنّ مُؤسّسي الحداثة والمُنظرين لها هم أوّل من وجّه إليها شتّى ضروب الانتقاد. بل إنّنا قد نلقى المفكّر نفسه مهللاً بالحداثة في جانب، مناوئًا لها في جوانب أخرى. كأنّ الحداثة لم تُعطِ لنفسها المُهلة لكي تجاوز نفسها فيما بعد. إنّها لم تنتظر “حقبة” أخرى لكي “تنتقل” إلى “مابعد”، وإنّما “عاشت” الما بعد أثناء التكوّن، فمزجت بين أنماط الزمان.
ويبدي الباحث مُعارضته لاستياء بعض المثقّفين المغاربة من إصرار مُتفلسفة المغرب على نقل الفلسفة الغربيّة وترجمة معانيها ومُحاورة فلاسفتها. ولا ينفكّ هؤلاء المثقفون عن النداء بضرورة الاهتمام بقضايانا، والانكباب على تراثنا، ومُحاورة أجدادنا.
ولكنّ هذا الموقف لهؤلاء المُثقّفين يتناسى أن تراثنا الفلسفيّ كان كذلك حوارًا وترجمة. ثم إن النقل والترجمة ليسا مجرد استنساخ لأصول، إن سلمنا أن الكتابة في لغة أخرى هي دومًا “كتابة أخرى”، إن سلمنا بأنّ الترجمة هي ما يسمح للنصوص بأن تنمو وتتزايد وتستمرّ في البقاء، بل في الارتقاء. فحينئذ تغدو مُحاورة الآخر و”ترجمته”، منفذًا للمُساهمة في بناء الكونيّة، ولتملك المعاني التي لا تنفكّ تتناقل بين النصوص واللغات من غير أن تستطيع ثقافة بعينها، ولا لغة بذاتها، أن تدعي وحدها امتلاكها والاستحواذ عليها.
ويعرض في فصل آخر للعالم الإنثروبولوجي كلود ليفي شتراوس الذي توفي قبل عدّة سنوات عن عمر ناهز المائة سنة. الغريب في أمر هذا العالم الفرنسيّ الكبير أنه كان يموضع نفسه في عصر آخر، ولم يكن يعتبر فكره تأسيسًا لجديد بقدر ما كان يعده تتويجًا لعهد سابق. لقد كتب مرّة: “إن أعمالي تنهي عهدًا وتختمه. إنها ما زالت متجذّرة في القرن التاسع عشر”. كان شتراوس يحسّ أنه أكثر قربًا إلى روسو أو شاتوبريان منه إلى فوكو أو ألتوسير أو لاغان. ولكن على الرغم من ذلك فإن هذا الفكر المُتأصل في قرن سابق قد استطاع أن ينفتح على مُستجدات القرن اللاحق ويفتح علم الأعراق على منهجية جديدة نقلته مما قبل تاريخه العلمي. ولم يكن ذلك الانفتاح نتيجة نقل منهج كشف فاعليته في حقل العلوم اللسانيّة، بقدر ما كان وليد مُمارسة يقظة تمكنت من صقل طريقة البحث لجعلها فعالة في ميدان جديد. على هذا النحو ينبغي أن نفهم قول صاحب “البنى الأولية للقرابة” من أنه، عند لقائه بياكوبسون، اكتشف أنه كان يمارس المنهج البنيوي من غير أن يعلم.
أهمية هذا المنهج هو كونه يسعى إلى أن يبين أن مجموعات مختلفة يمكن أن تتقارب فيما بينها لا برغم اختلافاتها، وإنما بفضل تلك الاختلافات.
لعلّ هذه النقطة هي بالضبط ما جعل صاحب “الفكر المتوحش” يشعر بشيء من الغربة عن عصره الذي يسير نحو تنميط ثقافيّ يلغي الاختلاف لصالح تسوية سطحية. وربما لهذا السبب بالذات كرس حياته الفكرية ليثبت أنّ الحضارة الغربيّة مجرد إجابة ممكنه من بين إجابات مُختلفة للوضع الإنسانيّ، إلا أنّها ليست بالضرورة هي الإجابة الأجدر بالاحترام.
قد يُقال إن الرجل لم يظلّ وفيًا على الدوام لهذه الفكرة التي كرّس أبحاثه لأجلها. وبالفعل فقد صرح عام 2003: “شرعت في إعمال الفكر في زمن كانت فيه ثقافتنا تشهر عدوانيّتها أمام ثقافات أخرى تكفلت بالدفاع عنها. إلا أن اتجاه الحركة يبدو لي أنه قد انقلب. وها هي ثقافتنا هي التي تواجه عدوانيّة تهديدات خارجية”.
وعلى الرغم من أن ليفي شتراوس عاصر سارتر وميرلو بونتي وريمون آرون فقد ظل بعيدًا عن اليمين مثلما ظل بعيدًا عن اليسار وحتى الولع بالبحث الإثنولوجي لم يأتِه إلا صدفة ونتيجة رحلة لم تكن تستهدف أدغال الأمازون أساسًا بهدف البحث الإثنولوجي، فالظاهر أن ما كان يستهويه وما ظلّ يأسف عليه هو كونه “لم يهب حياته للفنّ، وللموسيقى على الخصوص، لأنها تكتفي بذاتها، من غير حاجة لخطاب شارح”!
ويظفر الكاتب الأرجنتينيّ الكبير بورخيس بفصل في كتاب بنعبد العالي، فعندما يؤكّد بورخيس على أن النصّ لا يعتبر أصليًّا إلا من حيث كونه أحد المسودات الممكنة التي تعبّد الطريق لنصّ سيكتب بلغة أخرى، فهو لم يكن يريد أن يعلي من شأن النصّ “النسخة لينتقص من النص” الأصل، كما لو أن نصّ الترجمة هو النصّ المهذّب المشذّب، النقي الطاهر، في مقابل الأصل الذي ليس إلا مسودة تنتظر أن تلبس لغة أخرى كي تجد صفاءها وطهارتها.
ربما كان مسعى الكاتب الأرجنتينيّ أن يبين على العكس من ذلك، أن الترجمة إذ تُرى في الأصل مسودة، فإنّها تنظر إلى كل نصّ على أنه دومًا قبل/ نص. بهذا تغدو الترجمة نوعًا من التنقيب عن مسودات الكاتب الثاوية خلف مبيضته، فكأن مسعاها هو أن تعيد إلى النصّ مخاض ميلاده فتنفخ فيه الحياة من جديد، وتلبسه حياة أخرى ولغة أخرى.
ويرى بنعبد العالي أن الترجمة حينما تنظر إلى الأصل على أنه مسودة، فهي لا تحطّ من قيمته، ولاتنزله من عليائه ولا تعكر صفو طهارته، وإنما تبعث فيه الحياة بكلّ ما فيها من سواد وبياض حتى لا يبدو أصلاً سبق كل البدايات، وهناك جيرار جينيت الذي يرى أن العلاقة بين الأصل والترجمة ينبغي أن ينظر إليها باعتبار كل نصّ طرسًا شفافًا، وكائنًا جيولوجيًا ملطخًا بالأتربة، حتى وإن سعى إلى أن يبدو، شأن كل أصل، طاهرًا نقيًا وكأنه تحرر من كل “طبقاته” وتخلص من جميع شوائبه.
ويحضر الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت في الكتاب في فصل عنوان”جدوى الكتابة” مجيبًا عن سؤال وجهته إليه صحيفة إيطالية سألته سنة ١٩٦٩ حول جدوى الكتابة، فردّ قائلاً:
– أنا أكتب إشباعًا للذه، وهي كما نعلم غير بعيدة عن الافتتان الأيروتيكي.
– وأكتب لأن الكتابة تخلخل الكلام، وتهز الأفراد والأشخاص، وتقوم بعمل نعجز عن تبيّن مصدره.
– وأكتب كي أحقق”موهبة” وأنجز عملاً مميزًا وأحقق اختلافًا وأحدث فروقًا.
– أكتب لكي يعترف بي وأكافأ وأكون موضع حب واحتجاج وتأييد.
– أكتب كي أنجز مهامّ إيديولوجية، أو ضد الإيديولوجيا.
– أكتب بإيعاز إيديولوجيا متسترة وتقسيمات مناضلة، وتقويمات مستديمة.
– أكتب إرضاءً لأصدقاء ونكاية بأعداء.
– أكتب مساهمة في إحداث شروخ في المنظومة الرمزية لمجتمعنا.
– أكتب إبداعًا لمعانٍ جديدة، أي لقوى جديدة، للتمكن من الأشياء بطريقة جديدة، وخلخلة تسلط الدلالات والعمل على تغييره.
– وأخيرًا أكتب إثباتًا للقيمة العليا لفعالية تعددية لا دوافع من ورائها، ولا أهداف ترمي إليها، ولا تعميم تستهدفه، شأنها في ذلك شأن النص ذاته.
على أن من أشدّ فصول كتاب عبدالسلام بنعبد العالي إيلامًا فصل يتحدث فيه عن كيفية تلقي المثقّفين الغربيّين للأعمال العربيّة التي يقرأونها مُترجمة إلى لغاتهم.
يبدأ بالقول إن مثقفًا مغربيًا حاول مرّة أن يفسر تعلّق المثقف في المغرب بالسياسة فردّه إلى كون السياسة”تمكن مثقفينا من حزمة من المكاسب”، منها أنها “آله ترويج ناجعة قد ترتقي بمن تتبناهم إلى مصاف العالميّة، وهذه لا تتعدى عند غالبية مثقفينا ترجمة آثارهم إلى لغة غربيّة وإصدارها في خمس مئة نسخة من قبل دور نشر صغيرة، مناضلة أو متعاطفة في الغالب، تأخذ نصوصهم على أنها “شهادات” لا على أنها إبداع فكريّ أو فنيّ”.
ويضيف إن اللغات الغربيّة عندما تنقل بعض أعمال المثقّفين المغاربة أو العرب فليس لقيمتها الفنيّة أو الفكريّة، وإنّما لأنّها شهادات”.
فقيمة تلك الأعمال في أعين مُترجميها قيمة توثيقيّة تشهد على واقع حال وليس قيمة فنيّة تدل على عظمة إبداع!.
ربما لهذا الاعتبار يمكن أن نفهم لماذا لا يولي المُترجمون الغربيّون كبير عناية للأعمال الفكريّة، بل وحتّى النقديّة التي يبدعها المثقّفون العرب.
فلو أنّك قست ما ينقل إلى اللغات الإنجليزيّة والفرنسيّة والأسبانيّة والإيطاليّة من إنتاجات عربيّة لوجدت أنّ النسبة العالية، إن لم تكن المُطلقة من تلك المُترجمات هي للأعمال الروائيّة. لسنا نعني بذلك تبخيسًا للعمل الروائيّ، كلّ ما نريد قوله هو أنه حتّى الروايات ذاتها لا تعني المُترجمين الغربيّين من حيث هي روايات وإبداعات فنيّة. إنها لا تنتقى لجانبها الفنيّ، كأن: يكتشف” مترجم عملاً لم يسبق أن انتبه إليه رغم قيمته الفنيّة، كلا. وإنما تترجم لجانبها التوثيقيّ، فهي ليست رواية بقدر ما هي شهادة.
لابدّ والحالة هذه، أن يغدو الإنتاج الروائيّ “حدثًا” حتّى ينال اهتمام المُترجم، لذا فهو لن يوليه اهتمامه إلا بعد أن يتناوله الإعلام، إما على أثر نيل جائزة، أو منع كتاب، أو ملاحقة كاتب!.
بهذا المعنى فإن الانتاج الفكريّ والفنيّ للمثقّفين العرب لا يمثّل في نظر المُترجمين الغربيّين أعمالًا “أجنبيّة” تفتقت عنها قريحة مُبدعين ينتمون إلى ثقافة أخرى غريبة عنهم ETR ANGERE، وإنما شهادات حيّة عن حياة كائنات غريبة الأطوار ETRANGES.
هذا في الوقت الذي يتسابق فيه المُؤلفون العرب، والروائيّون منهم على الخصوص، على نقل أعمالهم إلى اللغات الأجنبيّة طلبًا للشهرة أو للعالميّة، وعلى أمل أن تلفت هذه الأعمال لجنة جائزة نوبل للآداب لعلّ وعسى، في حين يقول عبدالسلام بنعبد العالي إن المُترجمين الغربيّين (أو الغربيّين بوجه عام) يتعاملون معها كشهادات حيّة عن حياة كائنات غريبة الأطوار!.
ويعقد المؤلف فصلًا عنوانه “خارج المتن” يتناول فيه كلمة للكاتب المغربيّ الكبير عبدالفتاح كيليطو ذكر فيها أن أهمّ ما يعتزّ به في كتبه ليس هو محتواها ومتنها، وإنما تلك الاقتباسات التي يضعها في الصفحة الأولى على “عتبة الكتاب” وخارج المتن.
وكان كيليطو قد سبق له أن بيّن في كتابه “الأدب والارتياب” أن الاقتباسات بصفة عامة، وليس تلك التي توضع على العتبة وحدها، لم تكن لترتبط في نصوصنا القديمة بـ”ضعف القدرة الإبداعيّة” وإنما هي “عملية من الصعوبة بمكان” فأورد استشهادًا على ذلك، عبارة اقتبسها من ابن عبد ربه يقول فيها “إن اختيار الكلام أصعب من تأليفه”.
يرى عبدالسلام بنعبد العالي أنه إذا كان بإمكاننا أن نسلم مع كيليطو بأن “انتقاء الكلام وتنسيقه وما ينتج عن ترتيبه من ملاءمة أو تعارض بين المعاني، أن كل ذلك يورّط المقتبس ويكشف ميوله”، وبأن الاستشهاد ينمّ عن قدرة “استكشافية” لدى المُقتبس، ويدل على براعته في “الاهتداء” إلى ما يناسب من أقوال غيره، فإننا لا نستطيع على رغم ذلك أن ندرك بالسهولة نفسها كيف تغدو الاقتباسات التي ليست هي على أيّ حال ملكًا للمُؤلف، والتي توضع على عتبة الكتاب وخارج المتن، كيف تغدو مصدر افتخار للمُؤلف، بل تتخذ في عينيه أهمية تفوق النصّ ذاته؟
الأمر بنظر الباحث وبنظرنا أيضًا، إذ كيف تغدو كلمة و أو جملة اختارها المُؤلّف لوضعها على عتبة كتابه، أو خارج متنه، أهمّ ما ورد في كتابه؟ والواقع أن كيليطو من كبار الكتّاب والباحثين المغاربة وكلامه يفترض أن يكون دقيقًا.
قبل محاولة الإجابة عن هذا السؤال يتوقف بنعبد العالي عند طبيعة هذه الاقتباسات والدور الذي تقوم به، فلو نحن استعرضنا مُختلف تلك النصوص الصغيرة التي تحتلّ الورقة الأولى من الكتاب عند كيليطو، وعند غيره من المُؤلفين لوجدنا أنّها لا تكتفي في الأغلب بأن تمهّد للكتاب أو توجز معانيه. إنّها ليست ملخصًا يقدّم زبدة الكتاب وعصارته. كما أنها ليست دومًا “توطئة” تمهّد لما سيطرقه المؤلّف “داخل” الكتاب، فهي تكون خارج المتن لا مكانًا ورتبة وحسب، وإنما دلالة ومعنى، فكأنها تنفتح على “شرفات” قد لا ينفتح عليها الكتاب. فكما لو أنها توجّه القارئ خارج “دفتي” الكتاب وهي تبدو كما لو أنها تسد فراغًا وتكمّل نقصًا، إلا أنها بذلك تشهد على عدم اكتمال. وعلى رغم هذا فهي تجعل المؤلف يشعر أنه حتى أن اقتبسها عن غيره، فهو يعبر بفضلها عن نفسه، وأنها هي بالضبط ما يريد قوله بل إنه قد يحسّ أنها تقول كل ما يريد قوله في الكتاب بمجمله.
ثم إن موقع العتبة التي توضع فيه تلك الاقتباسات يجعل المؤلف يحسّ أنه لم يدخل البيت بعد، وأنه بالتالي ما زال معفى من قواعد اللعبة لا يخضع لما تفرضه حرمات البيوت. إنه مُتحرر من قيود الكتابة بشتّى أشكالها، ولعل ذلك هو ما يجعله لا يحدد بالضبط عنوان الكتاب الذي اقتبس منه ورقم الصفحة ودار النشر، فهو يكاد يكتفي بالتلميح إلى المُقتبس عنه بنوع من التقتير ذلك أنه يحسّ أن وجوده على العتبة يجعله يتمتع بحرية لامتناهية: لا يخضع لما تمليه قواعد التأليف، ولا لما يفرضه التراتب الزمنيّ أو الترتيب المنطقيّ، فهو ليس مجبرًا لا على القيام بتحليل ولا على إقامة دليل، فحتى إن شعر أن اقتباسًا واحدًا لا يفي بما يريد وجدته يضع أكثر من اقتباس من غير مراعاة تسلسل زمنيّ أو ترابط بعينه بين الاقتباسات، إذ من الممكن ومن المرغوب أن تكون الاقتباسات مُتنافرة في بعض الأحيان، بل ربما هو قد يجمع بين ما لا يمكن أن يجتمع، كأن يضع شذرة لينتشه إلى جانب آية من الكتب المقدسة.
على هذا النحو يمضي الأكاديميّ المغربيّ عبدالسلام بنعبد العالي في مُلاحظاته الدقيقة، في كتاب صغير الحجم، جزيل الفائدة، مُمتع يمثل نوعًا من الكتب كثيرًا ما نفتقدها في زحام البضاعة الرديئة التي يقدر لها، لسبب أو لآخر أن تطرد البضاعة الجيدة من السوق.