تشارلز سيميك وإيمان مرسال شاعران في سيرة واحدة

شيرين أبو النجا

ظهر مصطلح «ذبابة في الحساء» في اللغة الإنكليزية في أواخر القرن التاسع عشر، وتطور كثيراً حتى فقد معناه وتحول إلى نكتة ذكية تُقال بطرق عدة وفي سياقات مختلفة. والثابت في عبارة «ذبابة في الحساء» أنّها تعني وجود مشكلة كبيرة أو موقف في غاية الصعوبة. لماذا يكتب شاعر سيرته، أو بالأحرى ما يشبه السيرة ويطلق عليها «ذبابة في الحساء»؟ (صدرت عن دار نشر جامعة ميشغان ضمن سلسلة «الشعراء عن الشعر» عام 2003).
ربما جاء هذا العنوان «المقزّز» ليعبّر عن صورة الفنان في شبابه، بكلّ الصعاب التي قابلها في مسيرة الكتابة، أو إعجاباً بالعبارة نفسها أو ربما يكون اختياره مجانياً كما هي عادة الشعراء أحياناً. لكنّ السؤال الأهم يبقى في مغزى أن تقوم الكاتبة والباحثة والشاعرة المصرية إيمان مرسال بترجمة سيرة الشاعر تشارلز سيميك (يوغوسلافي ويُقال إنه من أصل صربي قبل أن يصبح أميركياً).
يطرح صدور أي كتاب مُترجم إشكاليتين دائمتين. فإمّا أن يتم الاحتفاء بالترجمة (وهو ما يتضمن المترجم ويُشار إلى عمله بالمجهود الجبار والدأب والدقة) لأنها أتاحت أمام قارئ العربية فرصة أن يقرأ بلغته جزءاً من عالم آخر. وإمّا أن يتم التعامل مع الكتاب المترجم وكأنه كُتب بالعربية فيتم تحليل الرواية والتأمل بالصور أو التعليق على الأفكار. لكنّ هذا المقال لا يسلك أياً من هذين السبيلين، وإنما يبحث في تداخل العلاقة بين الكاتب والمترجم.
الكتاب ممتع إلى أقصى درجة والترجمة رائعة. ولو لم نقرأ عليها اسم الكاتب أو المترجمة، لما خطر في بال القارئ أن ما يقرأه هو عمل مترجم. قد يظنّ أنّه يقرأ عملاً بلغته الأصلية، يُميّزه أسلوبه السلس والبديع. فالكتاب لا تشوبه أي من تلك المطبات التي نصادفها كثيراً في الترجمات الأخرى، ومنها على سبيل المثل سيطرة الجمل الإسمية أو وجود مصطلحات ثقافية غير مفهومة تنمّ عن ترجمة حرفية. ومن أجل تقدير هذا العمل لا بد من البحث عن سبيل مختلف للحديث عن «الترجمة».
إن اختيار أي عمل للترجمة لا بد أن يكون اختياراً سياسياً، بالمعنى الشامل. فالأسباب التي تدفع المترجم إلى «الاختيار» لا بد أن تنطوي على منطق أو دافع أو رغبة في قول شيء ما، لذلك لا معنى مطلقاً لمسألة التكليف بالترجمة. ما الذي دفع مرسال الى ترجمة هذا العمل؟ هل وجدت فيه صدى لمسارها، فهي صاحبة «المشي لأطول وقت ممكن» (1997، ما دفعها إلى رسم «جغرافيا بديلة» (2011)، وكان المبرر «حتى أتخلى عن فكرة البيوت» (2013).
قد يشعر القارئ أنّ ثمة حواراً بين سيميك ومرسال في ما يخصّ النهاية، بمعنى المكان بالنسبة الى الكاتب وتأثيره في الرؤية الفنية، ومساهمته في تشكيل الصور التي تتوالى في القصيدة لتعبّر عن حياة حدثت بالفعل في «أرق الفندق» (1992)، وكأن «العالم لا ينتهي» (1989).
لقد هاجر سيميك من بلغراد (التي قصفها النازي عام 1941، ثم قصفها محور التحالف عام 1944، وقصفها الناتو عام 1999 في غياب سيميك)، أمّا مرسال فهاجرت – والأصحّ غادرت – إلى كندا قبل أكثر من عقد. ومثل سيميك، بقيت إيمان مرسال مهمومة بكيفية تحويل الصور إلى قصيدة، وإن كنا لا نعلم إن كانت مزقت الكثير مما كتبته كما فعل سيميك. ربما صادف كلاهما «ذبابة في الحساء»، على اعتبار أنّ العيش بين أماكن عدة يجعل الوجود صوراً تتدافع في القصيدة وتتزاحم لتجد لنفسها مكاناً. وفي هذا التدافع يجد الشاعر نفسه في ورطة، فالأصل لم يبق منه سوى تلك الصورة الذهنية التي تُعدّ الرصيد من التجربة. يقوم شعر إيمان مرسال على هذا التدافع والتفاعل والتواصل بين الصور الآتية من مصر وكندا وما بينهما، تماماً كما تشكل الصور الآتية من بلغراد وباريس وشيكاغو ونيويورك العمود الفقري في قصيدة سيميك مع تأثره بمدرسة العبث.
ولأن الحوار جاء سلساً بين شاعرين، وضعهما السياق الخاص للكتاب في طرفي كاتب ومترجمة، تمكنت مرسال من ترجمة الطبقات الثقافية للنص بيسر وسهولة (المطبخ، الفلسفة، الكتابة، الترجمة، الأغاني، الأفلام…)، فهي تعلم تماماً أن سيميك لم يكن في أي حال من الأحوال يقدم عرضاً ثقافياً عن المكان الذي جاء منه، بل يستعرض «الصور» التي شكلت وعيه في سن مبكرة. وكأن هذه الترجمة تجيب عن أسئلة معلقة لدى إيمان مرسال عن الكيفية التي تترجم بها الثقافة نفسها في لاوعي القصيدة، إنها الأسئلة التي تجعل الشاعر يعترف أن ثمة «ذبابة في الحساء».
يبدو كتاب «ذبابة في حساء» (كتب خان – القاهرة) كأنه من تأليف اثنين معاً. شاعران يكتبان قصيدة النثر، ويترجمان، ويسلكان المجال الأكاديمي، ومن قبله الصحافي. وكل منهما – في فعل الكتاب أو الترجمة – يستعرض بكثافة كل الصور والمشاهد والقصائد والمقاطع التي تمنح الحياة عقلاً والشعر معنى. وإذا كان كتاب سيميك صدر في سلسلة ما يكتبه الشعراء عن الشعر، كان لابد أن تقوم الشاعرة إيمان مرسال بالترجمة.
الترجمة إذاً اختيار، لا يقوم على مجرد الرغبة أو غيابها، وإنما يرتكز على المحمول الأدبي والثقافي ويقع جزء كبير منه في اللاوعي السياسي، أو بالأحرى في مخاض كل قصيدة كتبها الشاعران.
مؤتمر فلسفيّ في الجامعة اللبنانية
بعد المؤتمر الأوّل حول مسار التفكّر الفلسفي وشروطه وإمكاناته، تعقد لجنة الفلسفة في المعهد العالي للدكتوراه في كلية الآداب والعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة (الجامعة اللبنانيّة) مؤتمرها الثاني، (بين 4 و5 تشرين الثاني – نوفمبر) حول التفكّر في قضايا التقليد والحداثة ومابعد الحداثة في المجال العربيّ. تظهر محاور المؤتمر النظر النقديّ في الاستدعاءات المعرفيّة الثلاثة (التقليد والحداثة ومابعد الحداثة)، وضرورة التفاعل الجريء مع تحدّيات الحداثة وإرباكات عصر مابعد الحداثة.
يأتي برنامج المؤتمر في محاور أربعة. يتناول المحور الأوّل (التقليد والحداثة ومابعد الحداثة. العناصر والمؤشّرات في بنى التفكير والممارسة) المفاهيم الثلاثة في بناءاتها المعرفيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والدينيّة. ويشارك في هذا المحور الذي يأتي في جلستين، جيرار جهامي وفرانك درويش ورندا أبي عاد وجمال نعيم.
المحور الثاني (التمثّلات العربيّة للتقليد والحداثة ولمابعد الحداثة في شروطها التاريخيّة) هدفه إظهار أثر التوتّر الجدليّ بين الأنظومات في ميادين الإنتاج الأدبيّ، والوعي القوميّ، والفعل السياسيّ، والاختبار الدينيّ وقابليّة التفاعل مع استدعاءات الأنظومات الثلاث. يشارك فيه شربل داغر ومحمّد علي مقلّد ومهدي شحادة وعلي حميّة.
أمّا المحور الثالث (قراءة نقديّة لمشاريع التحديث في العالم العربيّ. الإنجازات والإخفاقات)، فيهدف إلى تقصّي مواضع النجاح والإخفاق في اعتماد التحديث الشامل في بنى التفكير والممارسة في المجتمعات العربيّة، ومعاينة آثار هذا التوتّر الجدليّ في بناء الوعي السياسيّ المناهض لكلّ ضروب الهيمنة الأيديولوجيّة. يشارك في هذا المحور أنطوان سيف وباسل صالح ووفاء شعبان وجورج قرم.
المحور الرابع (شروط الحداثة العربيّة وإمكاناتها)، يسعى إلى محاولة الإتيان بحداثة تستجيب لاختبارات الإنسان العربيّ المعاصر، وتواكب متطلّبات النضج في بناء وعي إنسانيّ عربيّ حديث. يشارك فيه، مشير عون.

(الحياة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى