تظاهرة فنية باريسية تحتفي بالطباعة ذات الأبعاد الثلاثية

عمار المأمون
تَرك نص”العمل الفني في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي- 1936” للناقد والكاتب الألماني والتر بينجامين أثرا كبيراً في الدراسات المهتمة بفهم آليات إنتاج العمل الفني في ظل التطور التقني والصناعي، إذ يتناول النص الكاميرا ودورها في تهديم فرادة العمل الفني الذي لم يعد حكراً إنتاجه على شخص أو مؤسسة، حالياً لم تعد إعادة الإنتاج هي المهيمنة، فنحن أمام ثورة تكنولوجية أساسها البلاستيك الذي يغزو الكوكب ويُصنع منه ما حولنا، ليتحول العمل الفنيّ لا إلى مجرد وسيلة للخلاص اليوتوبي بالصورة المفاهيميّة، بل وسيلة لنهضة بشريّة أساسها الطباعة ثلاثية الأبعاد والبلاستيك في سبيل كسر الاحتكار الإنساني ونماذجه، وتنتصر للبلاستيك البدائي الذي يختزن تاريخ البشريّة بوصفه يأتي من النفط القادم من أعماق الأرض ويسعى لاستبدالنا في بعض الأحيان، هذه المقاربة نقرأها ونراها في “مانيفستو العنصر الناشط الإضافي ثلاثي الأبعاد” الذي صممه كل من دانيال رورك وموريشين الأهياري عام 2015.
انطلاقاً من السابق يستضيف مركز جورج بامبيدو في العاصمة الفرنسيّة باريس تظاهرةً بعنوان “الطفرات/المخلوقات” التي يشارك فيه العشرات من الفنانين والنحاتين والمعماريين من مختلف أنحاء العالم لتقديم أعمالهم الفنيّة المنتجة بتقنية الطباعة ثلاثية الأبعاد، في تحدّ لشكل الفن التقليدي القائم على الصنعة اليدوية ومهارة تكوين المادة، تحوي التظاهرة معرضين الأول بعنوان “طباعة العالم” والثاني بعنوان “الشكل الدوار”.
في “طباعة العالم” تحضر أمامنا “الأعمال” بأشكال وأحجام مختلفة، وهي أعمالٌ أوّلا لأن هدف المعرض هو دفعنا للتساؤل حول ماهيتها، هل هي أعمال فنيّة أم أغراض يعاد إنتاجها أم تصميمات رقميّة أم مجرد احتمالات لما يمكن أن يكون عليه الفن مستقبلاً؟ وهذه التساؤلات مرتبطة بطبيعة التكنولوجيا الحديثة وعلاقتها مع الصنعة الفنيّة، ففي هذه الأعمال المهارة “اليدوية” و”الصنّعة” لا تحضران، فما هو مهم طبيعة المواد الأولية المستخدمة والتصميم، في حين أن “البناء” يتم عبر الطابعة ثلاثية الأبعاد، ففرادة العمل الفنيّ وأصالته غير موجودتين بوصفه قابلا للإنتاج في أيّ لحظة، كما أن التفوق للآلة بوصفها قادرة على خلق التفاصيل والتكوينات التي تعجز عنها “البراعة” البشريّة، لتحضر في المعرض آلات الطباعة والتقنيات الصوتية والشاشات والإسقاط الضوئي بوصفها الوسائط الجديدة والأدوات التقنيّة التي تعيد تشكيل الفضاء سواء الواقعي أو الافتراضي عوضاً عمّا هو تقليدي من ريشة وألوان وغيرها.
المواد الأوليّة المستخدمة في الأعمال سواء البلاستيك أو المعادن أو البوليمارات تشكل مقاربة نقديّة لمفهوم التفوق البشري والجوهر البشريّ الذي لا يمكن محاكاته، فهذه المواد المصنعة بشرياً أصبحت قادرة على محاكاة أدق التعقيدات المرتبطة بالكائن البشريّ، فمفهوم تفوق “الشكل الإنساني” أصبح خاضعاً للتساؤل حينما نرى وجوهاً بشرية مطبوعة بتقنية ثلاثية الأبعاد، لتبدو وكأنها فعلاً حقيقية كما في أعمال الفنانة ديوي هاغبورغ، وكأننا أمام سؤال شعريّ “هل من الممكن أن أستبدل وجهي؟”، فهذه التقنية تعيد تكوين الأثر البشريّ بكل تفاصيله سواء على صعيد المنتج البشري أو على صعيد استبدال أطرافه وجسده.
لا تكتفي الصناعة ثلاثية الأبعاد بإنتاج الجسد البشري والمنتجات اليوميّة بل تمتد نحو مساحات الغياب، المرتبطة بالأعمال المتخيّلة أو التي اختفت، كأن تستعيد الأثر الحضاري والمعرفي، إذ قامت الفنانّة الأميركيّة الإيرانية موريشين الأهياري بإعادة طباعة عدد من التماثيل والآثار السورية التي تمّ تدميرها من قبل داعش، وكأن التاريخ في المستقبل والحفاظ على الذاكرة البشرية سيتحوّل إلى شكل لا مادي، تكفي صورة واحدة أو مجموعة من الكودات والبيكسلات من أجل إعادة إنتاج مدن بأكملها، مدنٍ بلاستيكية تستخرج من أعماق التاريخ البشري نحو السطح وكأنها بنيت الآن، كحالة البلاستيك نفسه حبيس باطن الأرض.
(العرب)