تفكيك أسطورة رامبو ” 1- 2 “

الجسرة الثقافية الالكترونية-الراية-

 

*جهاد فاضل

خلال ثلث القرن الماضي صدر باللغة العربية أكثر من كتاب عن الشاعر الفرنسي رامبو. من هذه الكتب مجلد ضخم حوى أعماله الشعرية الكاملة كما نقلها إلى العربيّة الشاعر العراقيّ المقيم في باريس كاظم جهاد.

 

وأحدث هذه الكتب كتاب لشاعر عراقي أيضًا هو سامي مهدي يعرض لا لشعر رامبو بل لسيرته وحولها خلاف واسع بين الباحثين. فرامبو رغم أنه لا يبعد عنا كثيرًا في الزمن لأنه من مواليد القرن التاسع عشر (ولد عام 1854 وتوفي عام 1891) ولكنّ الباحثين أو بعضهم على الأقل نسجوا حوله وحول سيرته نوعًا من أسطورة تسودها المبالغات والتهويلات والأوهام والإسقاطات والأكاذيب. وقد تنبّه الفرنسيون قبل سواهم إلى أن شاعرهم الأثير هذا غرق في أسطورة قريرة لا تمتّ إلى الحقيقة بصلة فحاولوا إنقاذه منها وإعادته إلى عالم الواقع.

 

وحول ذلك صدرت كتبٌ شتّى في العاصمة الفرنسيّة تحاول استعادة الملامح الحقيقيّة لرامبو، وإعادة رامبو إلى ما كان عليه بالفعل بعيدًا عن الزيف الذي ألصق به.

 

ولكن المسألة لم تكن بهذه السهولة، إذ تحولت أسطورة رامبو إلى مجموعة من الأساطير بسبب التعقيد والتشعب اللذين طرأ عليها. وحول كل منها نشأت نظريات اختلفت حولها الآراء والاجتهادات، وصارت مواضيع لجدل جانبي عقيم، حتى صار كل دارس جاد لرامبو يجد نفسه مضطرًا إلى البحث عن بداية جديدة يبدأ دراسته منها، غير تلك التي بدأ منها سواه ليتفادى ما يستطيع تفاديه من الأخطاء والأوهام والاختلاقات ويصل إلى صوت رامبو من خلال ضجيج الأصوات الأخرى.

 

أحد الباحثين الفرنسيين يتساءل في كتاب له عن رامبو: “أيمكن رسم صورة صحيحة لرامبو من عدد لا يُحصى من التناقضات والتعقيدات التي يواجهها النقد؟ أيمكن رسم الصورة التي تجعل رامبو معروفًا كإنسان، وليس فقط مجموعة التي رُبط بعضها ببعض بصورة مفككة؟

 

إيف بونفوا وهو باحث فرنسيّ آخر ينصح قارئه منذ السطر الأوّل من كتابه عن رامبو بقوله: “لكي نفهم رامبو علينا أن نقرأ رامبو، راغبين في فصل صوته عن أصوات كثيرة اختلطت به”. والطريف أن بونفوا نفسه الذي قدم لنا تلك النصيحة، لم يستطع أن يتخلص من عبء الذكريات والمرويّات عن رامبو، ولم تكن لديه من أدوات في الكتابة عن رامبو غير التأويل، على الرغم من أنه أراد أن يقدم لنا “رامبو بقلم رامبو”.

 

لكل ذلك يرى سامي مهدي أن قراءة رامبو قراءة صحيحة ينبغي أن تبدأ بتفكيك أسطورة رامبو. وهذا لا يكون إلا بقراءة نقدية صارمة، قراءة معيارية بالدرجة الأولى لا لنقول شيئًا جديدًا فحسب، بل لنقترب من حقيقة رامبو ومن قيمة ما قدّمه على صعيد الشعر وعلى صعيد النظريّة الشعريّة.

 

تعامَل المؤرخون مع رامبو وكأنه ولد بوهيميًا وعاش بوهيميًا ومات بوهيميًا.

 

فهو بوهيمي خلقة، وبوهيميته خصلة موروثة شأنها شأن زرقة عينيه وبياض بشرته، فرافقته منذ ولادته حتى مماته، الواقع أن البوهيمية كانت تجري في عروق خالَيه، وثلثا الولد خاله كما يقول المثل الشعبيّ. وهكذا أُتيح لبعض المفسرين أن يأتوا بنظرية تقول إن بوهيمية رامبو جاءته إرثًا عن أمّه، وليس عن أبيه. والواقع أن رامبو كان بوهيميًا خلقة، وبهذا فقط يصلح أن يكون النموذج البوهيمي المطلوب.

 

مشهورة هي علاقة رامبو بشاعر فرنسي آخر هو فرلين. رامبو في الكتاب هو الذي أغوى صاحبه وأطمعه في نفسه وشجعه وزهده في حياته الزوجية وحبّب إليه حياة التشرّد. صحيح أن فرلين كان ميالاً للهو والعبث وقضاء الوقت في الملاهي والحانات، ولكن لم يعرف عنه قبل لقائه برامبو أي شيء يمكن أن يدخل في باب التشرد.

 

وفي الكتاب أن رامبو كما يظهر من قراءة بعض قصائده كان خنثى، لا هو بالذكر ولا هو بالأنثى أو أن أحاسيسه الذكورية خمدت منذ بلوغه سنّ الرشد، أو منذ تعرضه للاغتصاب، وهذا ما يذهب إليه بعض الباحثين.

 

واختلف الباحثون في صفات أخرى كثيرة زعموا أنه كان ينطوي عليها، يتناول باحث فرنسي هو إتيامبل “أسطورة رامبو ذات الحسّ الديني”. أسبغوا عليه صفات خارقة”. فهو شكسبير الصغير، وهو الرائي، والملاك. وهو حينًا المسيح، وقديس العائلة. وشعره هو كتاب العصور المقدس وهكذا..

 

بل إن من المؤرخين والمفسرين من صنعوا منه شيخًا من مشايخ المسلمين. زعموا أن أباه ترجم القرآن إلى الفرنسيّة أثناء خدمته العسكرية في الجزائر. وادعت أخته إيزابيل أنه كان يقرأ القرآن في صغره بهذه الترجمة. وكان سرورهم بالغًا حين اكتشفوا في رسائله ما يفيد بأنه طلب من دار “هاشيت” للنشر أن ترسل إليه في عدن أفضل ترجمة لديها للقرآن، ومع النص العربي إن وجد. وزعموا أنه كان يعلّم أطفال هرار من بنين وبنات قراءة القرآن بلغتهم، وأن مجادلات حادة حدثت بينه وبين اليمنيين بسبب اعتماده على فهمه الخاص للآيات القرآنية، وأن هذه المجادلات قد ألّبتهم عليه. وادعت أخته إيزابيل أنه كان يردد وهو على فراش الموت عبارة: “الله كريم.. الله كريم”.. وتناسى كل هؤلاء كيف انتقص من الحكمة القرآنية في (المستحيل) من كتابه “فصل في الجحيم”.

 

وصوّره الفاشيون الفرنسيون “حكيمًا يهوديًا أنتجته دسائس اليهودية الجرمانية” ثم عادوا فوصفوه بأنه “أرستقراطي يكره الديمقراطية الفرنسية”. ورأى القوميون الألمان ومنهم ستيفان زفايج أنه “ألماني” ما دام قد ولد وعاش في مقاطعة “الأردين” التي كانت موضع نزاع بين فرنسا وألمانيا. وحين جاء هتلر إلى السلطة في ألمانيا أصبح رامبو “يعقوبيًا” و”منحطًا” و”متخنثًا”، وعلى عهد حكومة فيشي وصف رامبو “بالفاتح”، و”بالرجل المتوحّش” غير أن الجنرال بيتان نفسه وقّع كتاب شارلفيل الذهبي وأعاد الاعتبار إلى “بطل المستقبل” بطل الدولة الفرنسية؟

 

وهناك كثيرون ناقشوا “وطنية رامبو” و”انهزاميته”. وكثيرون تحدثوا عن نبوءات زعموا أنه تنبّأ بها، فنسبوا إليه نبوءات معادية لروسيا عُدت نذيرًا “بالخراب الألماني”. وبعد الحرب العالمية الأولى، وأكّدوا ذلك بعد الحرب العالمية الثانية، والنصّ المقتبس لتأكيد وجود هذه النبوءة هو النصّ الذي يدين فيه كلاً من بسمارك ونابليون الثالث.

 

أما السورياليون فعدّوه “ثوريًا انهزاميًا” وقارنه جان كاسو بجان دارك التي دافعت عن فرنسا ضدّ الاحتلال. ورأى أندره جيد فيه “درسًا في المقاومة”. غير أن هناك من رأى فيه أنه ليس بثوري انهزامي، ولا هو وطني شوفيني، بل كان من الساعين إلى الانضمام إلى الحرس الوطني.

 

واختلف الرأي حول موقف رامبو من كومونة باريس. ففي مسرحية لبونامي ظهر رامبو من أعضاء الكومونة. وزعم شارل مورا أنه قضى خمسة عشر يومًا مع الثوّار، في حين نفت أخته إيزابيل عن رامبو أية مشاركة له فيها. غير أن أسطورة رامبو الكوموني انتشرت خارج فرنسا برغم كل شيء، وظهرت عنها كتابات في إنجلترا وألمانيا وروسيا حتى غدت أسطورة عالميّة.

 

وأما الشيوعيون فبعد أن كانوا ينظرون إلى رامبو بوصفه انهزاميًا بسبب موقفه من أحداث الكومونة، تحمسوا له فيما بعد بوصفه “وطنيًا”. ودار حول ذلك جدل بين أراجون وبولهان. وقد رحب السوفييت بقصائد رامبو الكومونية، ولكنهم لم يتحمسوا لإشراقاته لانحطاطيتها.

 

ودار جدل آخر حول العلاقة بين عبارة كارل ماركس الشهيرة “تحويل العالم” وعبارة رامبو “تغيير الحياة” بين الشيوعيين والسورياليين.

 

وكان رأي بايليا اهرنبورج أنه “لا يوجد شيء مشترك بين رامبو والسورياليين المنحلين”، وذهب بعض الكتابات السوفييتية إلى النظر إلى رامبو بوصفه “شيوعيًا”.

 

وبعد عام 1939 كانت هناك حيرة في تصنيف رامبو ظهرت في خطابات أهرنبورج في مؤتمر وارسو وفي التفاتات أراجون ومقالة لارناك عن الرامبويين.

 

غير أن المتزمتين لم يلبثوا أن حسموا الأمر. فظهرت مقالات لكل من أراجون وإليوار وبارسيناك وبيار ديكان وكلود روا حول الموضوع. وأخيرًا ناقش تريستان تزارا الأمر من وجهة نظر ديالكتيكية، وقانون الكم والنوع، وما يحدث من نحول بموجب هذا الموضوع وبذلك “احتفظ رامبو بحقه في أن يكون شيوعيًا!.

 

أما كيف نسجت أسطورة رامبو الأخلاقية فمسألة عني بها بريتون الذي أصبح فردًا من العائلة حين قدم صورة أخرى لرامبو هي صورة البورجوازي الشريف المستقيم، فمن أولى واجبات الشاعر بالمعايير الأخلاقية البورجوازية أن يكون قد عاش حياة محترمة ليكون في المستقبل رب أسرة جيدًا.

 

وهكذا اجتهد من عنوا بنسج أسطورة رامبو البورجوازية برامبو المسافر لأسباب صحية، ورامبو المعلم، ورامبو التاجر الذي تعامل بالذهب والعاج والبخور، ورامبو مراسل الجمعية الجغرافية من إفريقيا، مموهًا بتصميم ليكون كل ذلك لا غيره، ولكي تأتي الصورة متكاملة، كان لابد من إبراز صورة رامبو الطالب المجتهد المهذب، وعائلته التي تقطن في أحياء راقية، والعامل المجد الذي عمل بكل نزاهة واستقامة.

 

وهكذا جرى تسييس رامبو. تنازعه الجميع وأوّلوا أقواله وأفعاله بحسب ميولهم وأهوائهم، فصار ينتمي رغمًا عنه إلى جميع التيارات الفكرية والسياسية، كل حسب ما يراه فيه. وبذلك أصبح أسطورة وطنية فرنسية يشترك الجميع في تمجيد بطلها وإعلاء شأنه وتقديسه وتسويغ أخطائه وحماقاته ، والتماس المعاذير له، وتحميل أمه، أو صديقه فرلين، أو غيرهما، مسؤولية حماقاته. بل هم برّأوه من الاتجار بالعبيد وبالسلاح، وحملوا على من يقول بهذا القول حملة شعواء، ووجدوا في قبيلة حبشية مسلمة (آل أبي بكر) مشجبًا علقوا ذنوبه عليها وعلى زعيمها.

 

وبذلك أصبح رامبو رمزًا وطنيًا من الرموز الوطنية الفرنسية، وبضاعة فرانكوفونية قابلة للتصدير فأخذت تحتفي به المؤسسات الرسمية الفرنسية وتحيي ذكراه في الداخل والخارج، فضاعت حقيقته ولم يبقَ منه سوى الأسطورة!.

 

كان رامبو شاعرًا، ولكنه صمت لاحقًا صمتًا نهائيًا عن قول الشعر وراح يضرب في الآفاق، ولكن صمت رامبو جرى كالعادة تأويله. اعتبر بعضهم أن “صمت رامبو مهم ككلامه”! لم يفسر مؤرّخوه واقعة الصمت هذه التفسير البسيط الذي تستحقّه اعتمادًا على العناصر الواضحة التي يمكن الاستناد إليها، وكيف يفعلون ذلك وتبقى “الأسطورة” أسطورة؟.

 

ذهب فريق إلى أن صمت رامبو عن قول الشعر بعد انتهائه من تأليف كتابه “فصل في الجحيم” في آب 1873، وذهب فريق آخر إلى أنه استمرّ في الكتابة بعد صدوره، فكتب عددًا مجهولاً من “الإشراقات” ثم توقف عام 1874 وربما عام 1875.

 

ومن قائل إن صمت رامبو يعود إلى “قرار ضميري” اتخذه في كتابه “فصل في الجحيم” فهو بعد أن اكتشف إخفاقاته ويئس قرّر التخلي عن حياته وسلوكه والضرب في الآفاق بحثًا عن “المجهول” الذي لم يصل إليه من خلال الشعر.

 

ومن قائل إن يأس رامبو هو يأس من الغرب وديانته وعلمه وحكمته، وأنه قرر الهجرة إلى الشرق والعودة إلى وثنيته القديمة بحثًا عن “الحكمة الأبدية الأولى”.

 

ومن قائل: إن سبب صمته هو فقدانه الأمل بالشعر بوصفه وسيلة للخلاص وأنه وجد خلاصه في الفعل وفي العمل.

 

ومن قائل: إننا لا يمكن أن نفهم شعر رامبو ما لم نفهم فلسفته، لأنها هي التي ألهمته نوعًا خاصًا من الشعر، وهي التي جعلته يتخلّى عنه عندما آمن بأن هناك طريقًا أفضل لبلوغ الهدف وهو: الاقتصاد. فالشعر كان بالنسبة إليه شكلاً من أشكال التعبير لتطوير النوع الإنساني ولكنه ليس أعلى الأشكال فلما اكتشف ذلك تخلّى عنه.

 

ومن قائل: إن الشعر كان بالنسبة لرامبو تنفيسًا عن أحاسيس المراهقة وأزمة البلوغ وأنه لم يعد لديه ما يقوله بعد أن خاض تجربته مع فرلين واجتاز مرحلة المراهقة.

 

ومن قائل: إن هذا الصمت هو وجه من وجوه التوبة الدينية والأخلاقية.

 

ومن قائل: إن صمته نتيجة إحساسه بنضوب شاعريته وإنه سكت لحظة اكتشافه هذه الحقيقة فاتخذ موقفًا كبيرًا جديرًا بمبدع كبير.

 

وذهب أحدهم إلى القول: ربما لم يعد راغبًا في وصول شعره إلينا ترفعًا وكبرياء.

 

وهناك من أنكر شاعريته وتساءل ببساطة: “أيمكن القول: إن رامبو هو الاسم المستعار لفرلين، وإن قصائده هي المقطوعات الشعرية التي كان فرلين يتحرج من نشرها بسبب عدم ملاءمتها لنمط الإبداع وروح العصر السائد آنذاك؟.

 

يرى سامي مهدي أنه على الرغم من تعدد هذه التأويلات وتنوع اتجاهاتها ومذاهبها وأحيانًا تداخلها واشتباكها، فإنها وضعت مسألة الصمت هذه في أفق يلائم “أسطورة رامبو” التي انهمك المؤرّخون والمفسّرون في نسجها وتزويقها. فقد اتخذ هذا الأفق عند بعض المفسرين بعدًا ميتافيزيقيًا يجعل من الصمت وسيلة أخرى من وسائل البحث عن المطلق والمجهول.

 

واتخذ عند غيرهم بعدًا أخلاقيًا يبحث فيه الشاعر عن موقف كبير يليق ببطل الأسطورة لكن الضرب على وتر هذين البعدين كان يتطلب دائمًا تقديم تحليلات منطقية وكان بناء هذه التحليلات يتطلب الكثير من التأملات والكثير من الاجتهادات والكثير من الإنشاءات حتى يستقيم، وكان هذا كله ينأى بقدر أو بآخر عن المواقف البسيطة والوقائع الملموسة ويبتعد برامبو عن حقيقته فأُريق حبر كثير وسُوّد المزيد من الصفحات من دون أن يحظى السؤال عن سبب صمته بإجابة موضوعية مقنعة.

 

لماذا صمت إذن؟

 

عند البحث في هذه المسألة لابد من العودة إلى كتاب “فصل في الجحيم” وما جاء فيه من اعترافات، لأن الجواب يبدأ من هناك.

 

هذا الكتاب كما هو معروف مراجعة نقدية صارخة للسيرة الذاتية أعلن فيها رامبو أنه كان على وهْم، بل على خطأ، في كل ما ذهب إليه من أفكار ومشاريع ومواقف وتصرفات، وأن ماضيه كان عذابًا مضنيًا له، وقد أصبح هذا كله عبئًا عليه ولذا قرّر التكفير عنه والتخلّي عما كان يربطه به.

 

فهو إذن ليس مجرد نقد ذاتي، بل اعتراف بالإخفاق وإعلان للندم واليأس.

 

ومن يقرأ عبارات كثيرة واردة في قصيدة “وداع” وعبارات أخرى جاءت في قصائد “دم فاسد” و”خيمياء الكلمة” و”المستحيل” يشعر وكأن رامبو قد أشهر إفلاسه الأخلاقي والشعري وودّع كل ما كان يتمسك به بالأمس من أفكار وقيم وعادات وتصرفات ووسائل وغايات وطموح، فالكتاب الذي اختتمه بقصيدة “وداع” هو وداع للماضي كله وقطيعة تامة معه.

 

الواقع كما يراه الباحث أن رامبو كان يتهرب من حياته السابقة ومن جميع طموحاتها ومشاريعها ويبحث لنفسه عن حياة أخرى مختلفة وعن طموحات أخرى، كان يهرب من إحساسه بالإخفاق ويهرب من فضيحته الأخلاقية المدوية ومن الإعراض التام الذي واجهته به الأوساط الأدبية الباريسية، فرامبو الممتلئ بالإحساس بالفوق ورامبو المتعالي على شعراء زمانه ورامبو الذي اعتقد أنه سيصبح النجم الأكثر لمعانًا في صالونات باريس الأدبية ومقاهيها، ورامبو الذي دفع من أجل هذا ثمنًا باهظًا من نفسه ومن سمعته وجد نفسه أخيرًا مهملاً مثل كتابه محاصرًا بأصداء الفضيحة وذيولها، يسخر منه من كان يفتعل السخرية منهم وليس هناك من يتعهّده بالحبّ والرعاية والتشجيع والإنفاق كما تعهّده عشيقه الشاعر فرلين، لهذا كلّه قرّر الصمت عن قول الشعر واختار لنفسه حياة أخرى غير حياة الأدب ومشاريع أخرى غير المشاريع الشعريّة بخلاف ما يدّعيه مؤرّخوه المتحذلقون.

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى