‘تلحوق’ يتتبع محطات العلاقة التاريخية بين الصحافتين: المصرية واللبنانية

الجسرة الثقافية الالكترونية

 

مصطفى عبد الله

في بيروت تعرفت إلى الكاتب والناقد اللبناني نعيم تلحوق الذي اشتركت معه في ندوة “التواشج الثقافي بين المثقفين المصريين واللبنانيين” التي عقدت بقصر الأونيسكو.

 

وقد لفتتني الورقة التي ألقاها، واستهلها بقوله إن أول من استعمل لفظ “الصحافة” بمعناها الحالي، كان الشيخ نجيب الحداد، منشئ “لسان العرب” في الاسكندرية، وحفيد الشيخ ناصيف اليازجي، وهو الذي يرجع إليه الفضل في نشر مسمى “صحافة”، وقد استخدم العرب والاوروبيون عددًا من المصطلحات لوصف الصحافة بأشكالها المختلفة؛ بعد أن كان يطلق عليها حتى مطلع القرن التاسع عشر لفظة “الوقائع”، ومنها جريدة “الوقائع المصرية”، كما سمّاها رفاعة الطهطاوي.

 

وسمّيت كذلك “غازته” نسبة الى قطعة نقود كانت تُباع بها الصحيفة في 1656 في البندقية، وأطلق عليها “الجورنال”.

 

أما الشيخ رشيد الدحداح صاحب جريدة “برجيس باريس” الباريسية فهو أول من اختار لفظة “صحيفة”، وجرى مجراه أكثر أرباب الصحف؛ غير أن أحمد فارس الشدياق صاحب “الجوائب” في القسطنطينية – وهو الذي ناظر الشيخ رشيد الدحداح لغويًا – عقد العزم على استعمال لفظة “جريدة”، ومنذ ذلك الوقت، أي في العام 1858 شاع هذا اللفظ لدى جميع الصحفيين، وكان القس لويس الصابونجي استعمل لفظة “النشرة” بمعنى الجريدة أو المجلة.

 

أما اسم “المجلة” فقد استعمله في العالم العربي الشيخ ابراهيم اليازجي حين أصدر مجلة “الطبيب” عام 1884.

 

ويشير المتحدث إلى أن الصحافة بدأت في صورة الأوامر التي كانت الحكومات توفد إليها رسلها مكتوبة على ورق البردي الى كل إقليم، وكان لهؤلاء الرسل محطات صحفية يتجهون اليها. لهم جياد في محطة ومتى وصلت الرسالة الى حاكم الاقليم أذاع ما فيها على سكان إقليمه.

 

ويؤكد المؤرخ يوسف فلافيوس انه كان للبابليين مؤرخون مكلفون بتسجيل الحوادث، وكان لبابل في العصور القديمة شهرة طيبة في مصر الفرعونية، وبلغ اوج مجدها في عهد الملك حمورابي 2100 ق. م الذي نُسبَت إليه أول صحيفة وهي مجموعة حمورابي للقوانين مثل صحيفة “الوقائع المصرية” وغيرها من الصحف الرسمية التي تنشر القوانين واللوائح.

 

وهكذا في الصين وفي زمن الإغريق ثم الرومان حيث أصدر يوليوس قيصر مخطوطة “أكتاديورنا” أي الأحداث اليومية، التي نشرت مداولات مجلس الشيوخ وأخبار الحملات الحربية والأخبار الاجتماعية 59 ق. م.

 

ويذكر تلحوق أن بيروت لما كانت مركز الثقل في الصحافة اللبنانية منذ بداية العهد العثماني الى عهد الانتداب والاستقلال، فقد شكَّلت واحدة من حواضر الشام قبل أن تحمل اسم ولاية. فقد برزت في النصف الاول من القرن التاسع عشر وراحت تنمو بشكل سريع؛ وذلك عبر حظِّها من التطور العمراني، والمستشرقين الأميركيين في النصف الأول من القرن وما ولَّده من تحرك للآباء اليسوعيين. إضافة الى حملة ابراهيم باشا المصري على بلاد الشام وأحداث جبل لبنان 1841 – 1860، حيث تدفق المسيحيون من الجبل الى بيروت حتى باتت مركز الثقل في صدور الصحف على مر العهود والسنين.

 

ثم يذكر تلحوق المقولة التي تداولتها الألسنة على مرّ التاريخ القائلة إن “مصر تكتب .. ولبنان يطبع.. والعراق يقرأ”، وكيف نما هو وجيله على هذه الفكرة ثقافيًا حتى وجدنا أن المناخ الفكري والسياسي الذي يحضر في البيئات هو ما يؤثر على مدى جغرافية المكان ويجعله حدثًا بامتياز.

 

فمن بيروت التابعة لولاية صيدا، آنذاك، صدرت “حديقة الأخبار” في عهد السلطان عبدالمجيد؛ وكانت الأولى في المشرق العربي أصدرها المتصرف داوود باشا 1867 وهي الجريدة الرسمية، ثم كانت أول دورية تصدر في مصر غير رسمية وهي مجلة “يعسوب الطب” التي أصدرها محمد علي باشا 1865، وتلتها في العام التالي جريدة “وادي النيل” التي أصدرها عبدالله أبوالسعود في القاهرة، الى جانب إصدارات مختلفة في دمشق وحلب وبغداد واسطنبول.

 

أما ثاني جريدة صدرت باللغة العربية، فكانت في مصر وكان اسمها “الحوادث اليومية” حيث استقدم نابليون بونابرت مطبعة مع حملته الى مصر، واشتراها الخديو الكبير وأسس على أنقاضها في بولاق مطبعة جديدة أسهم في وضعها اللبناني الياس مسابكي، ولا تزال “الوقائع المصرية” تصدر وهي لسان حال الحكومة الرسمي في نشر القوانين ونقل الإعلانات والأخبار الرسمية، وما يجب ذكره هنا أن “الوقائع المصرية” ظهرت في أول عهدها باللغة التركية ثم العربية مع التركية، ثم عادت تركية فعربية التي استقرت عليها نهائيًا.

 

ويؤكد تلحوق أن قصة الصحافة بين لبنان ومصر طويلة لا تنتهي ببحث أو مقال، والسبب بأن أرض الكنانة موئل الثقافات والرافد للأفكار التي تنبض بالروح الوطنية والقومية والتحررية.

 

وقد عرفنا بعد الحرب الكونية الأولى أول سفيرة صحفية استقرت في أرض الكنانة مصر، وهي من قضاء البترون واسمها “روزا اليوسف” التي أنشأت الصحافة النسائية السياسية في وادي النيل وكان ذلك في العام 1925.

 

ويذكر تلحوق أن العلاقة بين لبنان ومصر أسبق على ذلك، ففي أواخر القرن التاسع عشر حيث كانت “هند نوفل” أول صحفية لبنانية في دنيا العرب قد تولّت إصدار مجلة “الفتاة” في الاسكندرية في العام 1892، وقد صدر الترخيص باسم شقيقتها “ساره” التي تنازلت عنه بدورها لانصرافها الى أمور الحياة الزوجية، وكانت “ساره” هي أول من طالب علماء اللغة باختيار كلمتين عربيتين مقابل كلمتي: “دام” و”ديموازيل” الفرنسييتين. وبعد زواجها، استأنف والدها “نسيم نوفل” إصدارها لفترة غير قصيرة.

 

وينتقل تلحوق إلى الطباعة فيقول إن الصحافة كانت تحتاج الى طباعة، وقد يتفاجأ البعض بأن ماكينة الطباعة دخلت الأديرة القبطية لأول مرة في تاريخ مصر، عندما أحضر دير السريان في وادي النطرون أول مطبعة 1850، وقام بطبع عدد من الكتب الكنسية، وكان الرهبان يشتغلون في نسخ الكتب، فيقضي الراهب وقته في نسخ الكتاب الواحد شهورًا طويلة، وقد اشتهر عدد من الرهبان الناسخين، بينهم الراهب “يوحنا الناسخ” الذي أصبح بعد ذلك “الأنبا كيرلس الخامس” الذي كان يعرف باسم “ابو الإصلاح” قد أحضر معه أول مطبعة أصلية من أوروبا تحديدًا، وحين أنبئ بوصولها، تهلل وجهه فرحًا ونهض لمشاهدتها وقال قولته الشهيرة: “لولا الخجل لرقصت أمامها كما رقص داوود أمام تابوت العهد”. وكان يشرف عليها الراهب “تاوضروس السرياني”.

 

أما في لبنان فقد كانت أول مطبعة في دير مار أنطونيوس قزحيا في وادي قنوبين عام 1610 وهي التي استخدمت الحرف السرياني وطبع فيها كتاب “مزامير داوود” بالسريانية والكرشونية (أي السريانية المكتوبة بالحرف العربي).

 

أما أول مطبعة عربية في لبنان فكانت في الخنشارة في دير القديس مار يوحنا الصايغ عام 1733.

 

ويذهب تلحوق صوب الأدب ليذكرنا بأن “مي زيادة” أشهر أديبات الشرق، كانت من أصل لبناني، وقد ولدت في الناصرة علم 1895 وقد ألمت بلغات الى جانب العربية والفرنسية والانجليزية والالمانية والإسبانية، وكانت تنشر في مجلات: “الزهور” و”المقتطف” و”الهلال” وجرائد: “المحروسة” و”السياسة” و”الرسالة”، وكان يجتمع في دارها كثير من العلماء والشعراء وقادة الفكر من أهل مصر. وأصبحت دارها التي حولتها إلى منتدى أدبيًا مباراة في البحوث العلمية والفنية، حيث كان يتردد على صالونها الأدبي الشعراء: إسماعيل صبري، ومصطفى صادق الرافعي، وولي الدين يكن، وأحمد شوقي، وخليل مطران، وشبلي الشمّيل.

 

وكانت بمواهبها تدير النقاشات وتبعث الوله والالهام لقرائحهم، وكانت قد اشتهرت بكتابة القصة الواقعية المستمدة من الحياة وحواراتها إلى جانب كتابات عديدة. حتى وافتها المنية عام 1941 في حي المعادي بالقاهرة.

 

أن اسم مي زيادة، وصالونها الأدبي حيث أقامتها في مصر، كان محطة أساسية في ضخ أسماء بارزة في الصحافة اللبنانية وتعريف الرأي العام المصري والعربي على أعلام كبيرة كخليل الخوري، رشيد الدحداح، بطرس البستاني، أحمد فارس الشدياق، يوسف الشلفون، لويس الصابونجي، سليم البستاني، أديب اسحاق، ابراهيم اليازجي، يعقوب صروف؛ فهؤلاء أرسوا دعائم الصحافة واختطوا للنثر أسلوبه البليغ المرسل وبفضل هؤلاء طبع الأدب الصحافة بطابعه إلى زمن فترسَّمت خطاه، وتوكأت على ساعده، ونهلت من معينه، وتأثرت بلغته وسحر بيانه، ويذكر تلحوق أن أول مجلة أدبية صدرت على يد المعلم بطرس البستاني كانت “الجنان” في العام 1870.

 

ولا ينسى “زينب فواز” بنت تبنين في جبل عامل، الشاعرة والمؤرخة التي شغلت الحياة الثقافية والادبية في مصر خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث سبقت في إبداعها الأديب محمد حسين هيكل وناقشت قاسم أمين بدعوته لتحرير المرأة والتي تعرفت على ضابط مصري في دمشق فتزوجته وصحبها معه إلى مصر حيث استقرت بالاسكندرية، فدرست على يد الشيخ محمد شبلي وحسن حسني الطويراني صاحب جريدة “النيل”، والشيخ محيى الدين النبهاني، وكانت من الرائدات اللواتي تجرأن على الكتابة الأدبية ولم يكن يعرف ذلك عن النساء عندئذ، باستثناء “عائشة التيمورية” و”زينب فواز”، التي نشرت مقالاتها في: “المؤيد” و”النيل” و”الأهالي” و”اللواء” و”الاستاذ” و”الفتى” وغيرها، وكانت تدعو فيها للنهوض بالمرأة والمجتمع عن طريق العمل والمعرفة، كما دعت الى تعليم المرأة، وألَّفت كتاب “حسن العواقب” عام 1899 “الملك قورش” 1905.

 

ويصل تلحوق إلى أن بلاد الشام وأرض الكنانة حضارتان قديمتان، تعودان إلى ما قبل تاريخ الزمن الجلي، وقد ارتبطتا في وحدة ورؤيا ولغة، وقد برهن التاريخ على هذه الحقائق، بأن بغداد ودمشق وبيروت وفلسطين ومصر، ألّفت نظرية جديدة في فهم الحياة، فاللبنانيون عاشوا في مصر خلال فترة مجيدة في الثقافة العربية المعاصرة، حيث شهدت انفتاحًا ثقافيًا كبيرًا في مصر، لأنه حين نتتبع جذور النهضة العربية يصعب فصل المصريين عن الشوام، وهو ما نراه من خلال دور اللبنانيين في الصحافة العربية والمصرية وتأسيسهم لأقدم دور الصحافة المصرية مثل: “الأهرام” و”دار المعارف” و”الفتاة” و”روز اليوسف”، لهذا يصعب فصل الإنتاج الفكري للمفكرين اللبنانيين عن نظرائهم من المصريين.

 

وإذا كان أصحاب الصحف اللبنانية يصدرون في مصر آنذاك، فهاهي اليوم “الأهرام” المصرية، التي أسسها سليم وبشارة تقلا، تعود لتطبع في بيروت، وذلك إن دل على شيء فعلى أن لبنان ومصر رئتا الجسم العربي الذي يتنفس فكراً.

المصدر: ميدل ايست اونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى